كانت الجلسة في وهران بعد محاضرة الحزب التي تحدث فيها الطاهر وطار عن الثورة الزراعية وعن تجربته الروائية، في روايته المخطوطة، جميلة... اللاز... العشق والموت في الزمن الحراشي، حميمية، الأمر الذي جعلنا نتجرأ على الذهاب بعيدا في مناقشته في بعض حميمياته الثقافية. كنا في لابيشري la pêcherie لأني عمي الطاهر كان يحب السمك. في مطعم شعبي قديم لم يكن سيئا. كانت الجزائر يومها ببعض الخير. بدأ الطاهر يحكي قصة زليخا السعودي ببعض التفاصيل التي لم نكن نعرف منها إلا القليل. كانت زوليخا صوتا مميزا بعد الاستقلال. تحولت بفصل اجتهادها إلى أهم كاتبة نسائية في الجزائر. سبقت الكثيرات في مجال القصة القصيرة والرواية والمقالة النقدية، حتى ولو كان نقدها انطباعيا تاريخيا. لم يسعفها العمر والسياسة والأهل لكي تذهب بعيدا في مشروعها، وتستمر بالشكل الذي تمنته دائما. قراءة بعض رسائلها تبين أنها لم تكن عادية وأنها كانت موهوبة وتحلم بالذهاب بعيدا في مشروعها الكتابي. عاشت زوليخا السعودي في عائلة ميسورة الحال، لكن التقاليد الثقيلة لم تسهل لها تنفيذ رغبتها التعليمية والكتابية كما أرادتها. فقد وجدت في شخص عمها الشيخ أحمد مساعدها الأول. كان عضوا في جمعية العلماء المسلمين ومتأثرا بابن باديس في مسألة ضرورة تعليم المرأة. كان رجلا شديد الإصرار على فتح أبواب التعليم أمام زوليخا. وعلى الرغم من غضب والدها من تعليم ابنته، فقد استسلم في النهاية لإرادة أخيه. د على عدم تعليم البنات إلا أن الحاج بفضل قوة شخصيته حرر زوليخا وأدخلها المدرسة في خنشلة. لتنال شهادة التعليم وتصبح معلمة في مدينتها. شكل أخوها محمد، الذي أغتيل في ظروف غامضة بعد الاستقلال، جرحها الكبير. فهو من كان يأتيها بالكتب من القاهرة فأسهم في تكوينها بشكل جيد. وبدأت تكتب قصصا قصيرة وتبعثها للشيخ السائحي الكبير لقراءتها في برنامجه الثقافي. في ستينيات القرن الماضي وبداية السبعينيات. تكونت بينهما علاقة ثقافية حميمية، فأصبح يشجعها على ارسال ما تكتبه لحصته الثقافية، وكان يذيع كل ما كانت ترسله. بدأت تكتب مقالات نقدية ووطنية وتنشرها في المجلات والجرائد كالجزائرية والحرية التي كان يشرف عليها الطاهر وطار. وكان الصدى جميلا تجاه ما كانت تنشره. وأصبح صوتها معروفا ومنتظرا أيضا. كتبت عن مالك حداد، نازك الملائكة، السياب، نزار قباني، رضا حوحو، وعن القصة، عن الشعر الحر وغيرها من الموضوعات. لم يكن زواجها الاول من ابن عمها ناجحا ولا الثاني أيضا بسبب الأوضاع الاجتماعية. في الأخير تركت كل شيء وجاءت إلى الجزائر العاصمة بهدف الالتحاق بالإذاعة الوطنية، فاستقبلها في العاصمة الطاهر بن عيشة والطاهر وطار لمساعدتها. كانت حاملا. دخلت إلى مستشفى مصطفى باشا وهناك وتوفيت أثناء الوضع. وكأن الموت كان ينتظرها في اللحظة التي انفتحت أمامها فيها آفاق الحرية والابداع. سألت عمي الطاهر الذي نزلت على وجهه غيمة مثقلة بالماضي وبرائحة الخيبة وهو يتكلم عنها، عن بعض التفاصيل التي كنت أعرفها بدون يقين من صحتها وعما سمعته عن قصة حب وزواج بينهما. فأجاب بعد صمت طويل: هل ستكتب كل ما أقوله في الجمهورية. فأجبت بنعم، إلا إذا ارتأيت عكس ذلك. أجاب ننتهي وأقول لك. زوليخا في الحقيقة جرح تمنيته دائما أن يظل نائما في الأعماق. وأن لا يوقظ، لكنها سنة الحياة أيضا. كنت شابا وكانت شديدة الذكاء وقوية الموهبة في زمن القيض. اللغة العربية كانت في أغلب كتاباتها دينية. كانت تبعث لي بالقصص والمقالات وكنت أقرأها أدقق بعضها وأنشرها في جريدة الحرية التي كنت أديرها. وكأن أخوها محمد وسيطا بيننا. هو من كان يأتيني بالمقالات. كان شعلة من الثقافة والذكاء. اتفقنا على الزواج. فطلبت يدها من عمها أحمد الذي كان بمثابة والدها، لأن والدها كان تحت ضغط التقاليد. والتقينا أنا وعمها في أحد مقاهي خنشلة وتحدثنا طويلا. كان رجلا مثقفا وخيرا، ولكن قاسيا أيضا. بقدر حبه للعلم، كان منغلقا سياسيا. ورفض الطلب لأسباب كان يعرفها هو وحده. ربما ارتبطت بطبيعة ثقافته. وزوّجها من ابن أخيه الذي كان يراه أهلا لها أكثر مني وأقامت في عنابة. لم يدم هذا الزواج طويلا، لتتزوج ثانية ولم تكن سعيدة. فقررت المجيء إلى العاصمة عند أختيها. انتظرتها برفقة الطاهر بن عيشة لمساعدتها على الالتحاق بالاذاعة لكن الموت كان أسبق منا. أدخلت مستشفى مصطفى باشا للولادة، لكنها ماتت أثناء الوضع. رحمها الله. حتى الطبيعة أخذت حقها منها بقسوة. سألت وطار عن سر آخر كان يشغل الساحة الثقافية وقتها: وأين ذهبت مجموعتها القصصية الأولى، أحلام الربيع، التي تقول في إحدى رسائلها إنها بعثتها لك؟ أجاب مرة أخرى بشيء من الألم ارتسم في عينيه وعلى ملامحه: أعتقد للأسف أنها ضاعت في وزارة الثقافة. أنا سلمتها للمكلف بالنشر لكنها لم تظهر. وإلى اليوم ما تزال دفينة مكان ما. هنا أيضا لم يكن الزمن رحيما معها. فقد سرق منها عصارة جهودها. نبهني وطار إلى ما يجب تفادي ذكره في المقالة. كتبت المقالة ذهنيا قبل أن أسهر عليها جزءا مهما من الليل. وصبّحتُ في الجمهورية حاملا معي سبقا ثقافيا عن تجربة وطار الحياتية والأدبية. أتذكر جملة عمي الطاهر رحمه الله التي ما تزال في القلب والذاكرة: لا أحد بريء من موت زوليخا. لكل منّا لمسة ما في قتلها بما في أهلها والتقليد العمياء وأنا. بعد سنوات، عندما قرأت رسائلها التي كانت تكتبها للشيخ السائحي الكبير والكثير من قصصها، التي ما تزال إلى اليوم في عداد المخطوطات، عرفت إلى أي حدّ كانت الدنيا ظالمة. وأنا أنجز حلقة من الديوان عنها وجدت الكثير من الحلقات الغائبة من حياتها بما في ذلك قبرها. كان ممحوا، وأعتقد أنه ما يزال على نفس الحال التي تُرِك عليها آخر مرة. على الرغم من أني استعملت أكثر من عشر شهادات للعثور على قبرها، بالخصوص شهادة عمها أحمد رحمه الله الذي كان من بين الذين حضروا دفنها ، قلوب القريبين منها ومحبيها و المسؤولين ؟ ،ماتت إلى الأبد