كثير من نقاد ومحللي الثقافة في العالم قد عرَفوا الثقافة من منظور المجتمعات المختلفة، كما أنهم تحدثوا بما فيه الكفاية عن علاقة السياسة والاقتصاد والسلوك بها، ولكن يلاحظ أن عددا قليلا جدا منهم قد كشفوا النقاب عن الموقع الذي يمكَن من صنع الظاهرة الثقافية. في هذا السياق وجدت التحليلات الفكرية التي اضطلع بها المحلل النفسي والناقد الثقافي البريطاني دونالد وينيكوط من أطرف وأغنى التحليلات التي لم تجد لنفسها طريقا إلى النقاش الثقافي العربي المعاصر. منذ البداية يوضح هذا المفكر أن "أي حقل ثقافي غير ممكن أن يكون أصيلا دون قاعدة التقاليد"، وإلى جانب ذلك فإن الأصالة في رأيه " مرتبطة بقبول التقاليد كأساس للاكتشاف"، ويكمن هذا الأخير في تقديره في "التأثير المتبادل بين الانفصال والاتحاد". وفي الواقع فإن وينيكوط يرصد مسألة مهمة وهي أن الإنسان يشرع في اكتساب الثقافة في مرحلته الطفلية المبكرة أثناء إقامة العلاقة بوالدته التي تنشط وتغذي فضوله للتعرف على العالم الخارجي. بسرعة نفهم من هذا المفكر أن "المكان الذي توجد فيه التجربة الثقافية هو الفضاء الممكن الواقع بين الفرد والبيئة (الذي هو الموضوع أصلا) "بما في ذلك الأم، أو ما يماثلها باعتبارها الموضوع الأول الذي يلتقي به الإنسان مباشرة بعد مغادرته للرحم. ثم فإن "نفس الشيء يمكن أن يقال عن اللعب لأن التجربة الثقافية تبدأ بالحياة الإبداعية التي تعلن عن نفسها في اللعب". وعلى ضوء ما تقدم فإن هذا "الفضاء الممكن يحدث فقط بعلاقة الثقة بالنفس من جهة الطفل، أي الثقة المرتبطة بشخص الأم أو بعناصر البيئة". لكي يكتشف الإنسان في حياته المبكرة هذا الفضاء الممكن الذي تصنع فيه التجربة الثقافية، لا بد من توفر عدة شروط، منها إعطاء الطفل الفرصة ليعيش إبداعيا، أي أن يترك ليبدع عن طريق استعمال الموضوعات/ الأشياء الحقيقية في حياته اليومية، دون تدخل أو فرضها عليه. في هذا السياق يخلص هذا المفكر إلى التحذير من نتائج عدم خلق منطقة مهمة ويدعوها بمنطقة "التوسط، أو فضاء الممكن بين الفرد والموضوع حيث أن الفشل في الارتباط أو فقدان الموضوع يعني للطفل فقدان منطقة اللعب وفقدان الرمز ذي المعنى". إنه نتيجة لهذا الفقدان فإن الطفل لن يقدر أن يملأ الفضاء الممكن بمنتوجاته التي يخلقها بخياله الخاص به. ومن أكبر الأخطار التي تواجه الطفل أثناء الانغماس في التجربة الثقافية، في تقدير وينيكوط، هي "شحن الفضاء الممكن للطفل من طرف شخص آخر". أليس هذا الأخطر هو ما يحدق بنا في مجتمعاتنا التي تفرض علينا كل شيء منذ ولادتنا إلى لحظة رحيلنا من هذا العالم؟