ولد شيخ المؤرخين الجزائريين أبو القاسم سعد الله عام 1930 في ضواحي قمار بالجنوب الشرقي، في بيئة قاحلة طبيعيا وعلميّا، أنهكها الاستعمار الفرنسي، ومن عائلة فقيرة جدا. ومن حسن حظ الطفل سعد الله أن خاله الشيخ الحفناوي هالي وزوج خالته الشيخ محمد الطاهر التليلي، رجلان متعلمان في جامع الزيتونة بتونس، وتحت تأثيرهما اقتنع والده بتفريغه للعلم وعدم تكليفه بأعمال الفلاحة مثل إخوانه وأقرانه. لذلك ألحقه في سنّ الخامسة بجامع القرية لحفظ القرآن إلى أن ختمه كاملا، وصلّى بالناس التراويح عام 1946. غير أنه لم ينتسب خلال تلك الفترة إلى المدرسة النظامية الفرنسية التي رفضها الأهالي. وشرعت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في الترويج لأفكارها الإصلاحيّة، فكان والده من أنصارها ومشتركا في جريدتها “البصائر”، حيث صار أبو القاسم المستفيد منها لأن الأب أميّ لا يقرأ، لتبدأ منها رحلة التكوين الأدبي والثقافي. ..بين الزيتونة والقاهرة دخل سعد الله تونس عام 1947 بدون بطاقة تعريف عبر طريق غير معروف إلا للمهربين، حيث انتسب كتلميذ مُبتدئ إلى جامع الزيتونة بزاد لم يتعدّ القرآن الكريم وبعض المتون الأساسية، أمّا تجربته في الحياة والثقافة العامة والفقه والنحو والحساب فكانت ضعيفة أو معدومة. وحين انتظم في التعليم كرّس كل وقته للمطالعة في كتب الأدب الحديث والقديم وحفظ المسائل، فكان يطالع بدون توجيه ولا خطة، لكنه لا يكاد يزور أحدا أو يلهو بأي شيء. تنقل من سنة إلى أخرى حتّى حاز على شهادة التحصيل (الثانوية) عام 1954، بينما كانت سكناه بغرفة قيّم جامع القصر لمدة ست سنوات. في العام 1955 بعد موسم واحد قضاه معلما في الجزائر، توجه إلى مصر بتشجيع من الشيخين العربي التبسي الذي أكرمه بعشرة آلاف فرنك فرنسي، وأحمد توفيق المدني الذي حمّله رسالة إلى الشيخ البشير الإبراهيمي في القاهرة، قبل أن يودعه بعبارة “سنراك غدا إن شاء الله علما من أعلام الجزائر”. دخل كلية دار العلوم في ديسمبر من العام نفسه، وحاز منها على شهادتي الليسانس والماجستير في الآداب العربية. ..قصة الجنسية الأميركية بعد رفض طلبه المنحة للدراسة في الغرب مرتين، تمّ ابتعاثه إلى أميركا عام 1961 بكفالة الحكومة الجزائرية المؤقتة، لكن خارج الحقل التخصصي الأصلي، فقد صار طالبا في التاريخ والعلوم السياسية. لم يستغرق تعلمه الإنجليزية سوى ثلاثة أشهر بالمركز الأميركي للغة في واشنطن، ليلتحق بجامعة مينيسوتا بدءا من 24 مارس 1961، ويظل بها حتى نيل شهادة الدكتوراه حول “الحركة الوطنية الجزائرية” في نوفمبر 1965. درّس مادة الحضارة الغربية بجامعة أوكلير في ولاية ويسكنسن، بسبب تأخيره العودة إلى بلاده في أعقاب انقلاب جوان من العام نفسه. وكشف في مذكراته أنه رفض الجنسية الأميركية، معتبرا ذلك “خيانة وطنية، فهو منذ نعومة أظافره يكافح من أجل أن يكون له وطن هو الجزائر، فكيف يتخلى عنه بعد تحريره؟”. ..صوفي بمحراب التاريخ بدءا من العام 1967 عاد إلى جامعة الجزائر، حيث حصر نشاطه في البحث والتدريس رافضا كل المناصب الإدارية والحكومية، حتى قال “إنني أخشى المسؤولية خشيتي من الأسد”. وكشف الوزير عبد الرحمن بلعياط أن رئيس الحكومة الأسبق قاصدي مرباح بعثه إلى “سعد الله” عام 1988 ليقنعه بتقلد وزارة الثقافة، غير أنه رفض العرض رفضًا قاطعا، وحين سأله صديقه محمد بلعيد: لماذا فعلت ذلك؟ أجابه “لو قبلت الوزارة لضاعت الثقافة”. وبذلك عاش صوفيّا في محراب البحث العلمي إلى وفاته يوم 14 ديسمبر 2013، تاركا وراءه كنزا معرفيّا بلغ المطبوع منه 54 مجلدا، توزعت بين اللغة والنقد الأدبي والشعر والتاريخ والتراجم والتحقيقات، تربّع بها على عرش المؤرخين الجزائريين. ..منظور جزائري وقال المؤرخ أرزقي فراد عن شيخه سعد الله، إنّ دوره بارز في تخليص التاريخ الجزائري من الكتابة الأجنبية بصفة عامة، ومن الكتابة الاستعمارية بصفة خاصة. وأضاف فراد في حديثه للجزيرة نت أنه وقف حياته العلمية على إعادة كتابة سفر تاريخ الجزائر بمنظور جزائري، وهو ما تجلى بصفة خاصة في موسوعة “تاريخ الجزائر الثقافي” (12 مجلدا). وأوضح أن سعد الله اعتبر الكتابة في التاريخ جهادا ثقافيا لإبراز حضور الجزائر في الوطن العربي والعالم قاطبة، لتفنيد مزاعم الاستعمار الفرنسي بأنه لم يكن لها ماضٍ سياسي أو ثقافي. من جهته، أكد كبير المؤرخين الجزائريين ناصر الدين سعيدوني أن أكثر ما كان يخشاه سعد الله هو الفراغ المعرفي والكسل العقلي والاستلاب الفكري. ودعا سعيدوني في حديثه للجزيرة نت الجيل الجديد من المؤرخين إلى التعامل مع تراث سعد الله الزاخر بقراءة نقدية ومقاربة معرفية تقوم على تثمينه وتحليل مضمونه شكلا ومنهجا، لاستكمال بناء مدرسة تاريخية ذات مواصفات موضوعية وعلمية وتوجهات وطنية حضارية، على حدّ تعبيره. ...مناشدة من جهة أخرى، ناشد أحمد سعد الله النجل الوحيد لأبو القاسم سعد الله السلطات في الجزائر ترجمة موسوعة “تاريخ الجزائر الثقافي” إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية وحتى التركية، لتكون نافذة حضاريّة على العالم الخارجي. وكشف أحمد في تصريح للجزيرة نت أن العائلة بصدد طبع آخر جزأين (الثامن والتاسع) من مجموعة “مسار قلم”، لتغطية الفترة بين عامي 2003 و2013، لتبقى مسودة كتاب “تحفة الزائر” الذي عمل والده على تحقيقه قبل وفاته تنتظر إتمامها من طرف المهتمين بالموضوع، حتّى تكتمل أعماله النهائية في حدود 57 مجلدا.