أحيا أمس مؤرّخون من طلبة أبو القاسم سعد الله، الذكرى الثانية لرحيله من خلال استعراض بعض من مسيرته العلمية والإنسانية ومن منجزاته التي أعادت إحياء معالم الذات الثقافية الجزائرية. وبالمناسبة، تمّ الإعلان عن عدّة مشاريع ثقافية منها ما تحقّق ومنها ما هو في طور التحضير والدراسة، تخص إعادة بعث أعمال شيخ المؤرّخين، أبو القاسم سعد الله. جرت فعاليات إحياء هذه الذكرى بفندق السلطان، بحسين داي وبمبادرة من مؤسسة "الشروق". ونشّط الندوة ثلة من طلبة الراحل سعد الله. ففي مداخلة بعنوان "آراء ومواقف في أبحاث سعد الله"، أشار الدكتور محمد أرزقي فرّاد إلى أنّ سعد الله يبقى قامة في العلم، شرّف الجزائر والإنسانية، كيف لا وهو الموسوعة العلمية التي قدّمت 56 مجلدا، ليقرأ نصا كتبه الراحل من ضمن ما جاء فيه "من أراد أن يعرفني عليه أن يغوص في إنتاجي، وعليه أيضا ألّا يكتفي بالقراءة العابرة والسطحية". وألّح المتدخل على ضرورة إقحام المخابر العلمية لدراسة تراث هذا العلامة الذي له اسهامات في شتى المعارف والفنون منها التاريخ والشريعة والعلوم السياسية والأدب والإعلام وغيرها، مشيرا إلى أنّ خير تكريم للراحل هو إعادة بعث تراثه العلمي ومناقشة أفكاره، هذا العلاّمة الذي يؤكّد المحاضر أنه كان يمقت المثقف الذي ينتهج المجاراة والمداهنة والمراوغة. سعد الله رحمه الله كان يملك ناصية المقاربة العلمية، وقد تمثّل في كتاباته حسب المحاضر في مجالين هما المجال العلمي الأكاديمي وكان عملاقا فيه وتمثّل أيضا في الكتابة الصحفية المتحرّرة من قيد البحث العلمي، يكتب فيها كإنسان متفاعل مع قضايا مجتمعه، كما كان الراحل أيضا متواضعا يراجع كغيره من العظماء أفكاره حتى بعد أن يقوم بطبعها وكان يصف أفكاره بالجامحة أوالشائكة أوبالجدل وغيرها، مؤكّدا أنّه لا يملك الحقيقة ويسعى دوما لسماع الرأي الآخر، متجاوزا في أبحاثه عتبة الخبر إلى صفة النظر وكان يسابق الزمن لتحقيق مشاريعه الفكرية. من ضمن ما تحدّث عنه الدكتور فراد، ارتباط الراحل بالوطن منذ أن كان طالبا بتونس، حين كتب سنة 1951 في "البصائر"، "أمة المجد في الميدان"، والتزامه القول بأنّ الحركة الوطنية بدأت عام 1830 (من روادها حمدان خوجة) وليس بعد الحرب العالمية الأولى، كما يعتبر مخترع مصطلح "الذات الثقافية" التي هي سبب حياة الأمم وديمومتها وانتصاراتها حتى وهي تحت وقع الهزيمة، كما حلم بتحرير تاريخنا من هيمنة المدرسة الكولونيالية، وثمّن كأستاذ وباحث العمل الجماعي بالمعاهد والجامعات ونادى قبل غيره بضرورة بناء الوعي التاريخي، ونادى أيضا ب"المثاقفة" بين الشعوب عوض الصراع الحضاري. وأضاف المحاضر أن الراحل دافع عن العربية وسعى إلى تثمين التراث الأمازيغي في الشمال الإفريقي وتأسيس هيئة مغاربية لترقية الأمازيغية وذلك سنة 1994. وكتب في هذا الشأن الثقافي وفي الهوية أروع مقالاته منها "لعنة ميروند" و"الحاج ديكارت" وقاده البحث أيضا للكتابة عن "أثر الجزائر في الأدب الأمريكي". من جانبه، أكّد الدكتور الأمين بلغيث في مداخلته "المنهج العلمي في البحث التاريخي لأبي القاسم سعد الله" أنّه درس عند الراحل من سنة 1980 حتى 1982 وقبلها كان يعرفه الطلبة عبر مقالاته وكتبه المطبوعة ببيروت، وهنا استعرض المتدخّل ارتباط المؤرّخ بهويته الجزائرية ومدى احتفاله عندما امتلك أوّل جواز سفر جزائري سنة 1963، حينها أكّد أنّ هذه الوثيقة رمز للسيادة وللأمة الجزائرية ولا يمكن لأحد أن يتجرأ على استبدالها بأخرى، كما كان شاهدا على ما وقع من تغيّرات وصراعات ما بعد الاستقلال وكان شاهدا وصادقا في الحديث عنها وتوثيقها. استعرض المتحدث بالمناسبة، أعمال الراحل منها موسوعته ذات ال53 مجلّدا والتي بفضل تلميذه الدكتور يحياوي، أعيد طبعها في بيروت وخصّص لها مبلغ 5 ملايير سنتيم، وأكّد بلغيث أيضا أنّ الراحل كوّن جيلا من المتمرسين على الكتابة في تاريخ الجزائر والحركة الوطنية وذلك منذ السبعينيات وكان منهم الراحل يحيى بوعزيز والعربي الزبيري وعبد الحميد زوزو، لكن يبقى وريثه الشرعي، الدكتور نصر الدين سعيدوني الذي كان رحمه الله يقول عنه على الملأ "إنّه خليفتي" ولهذا الباحث 27 مجلدا قيّما. في الأخير، أكّد بلغيث أنهّ أصدر بعد وفاة شيخ المؤرّخين كتابا ذا 626 صفحة بعنوان "بأقلام أحبابه"، وقد صدرت الطبعة الأولى سنة 2014 جمع فيها مقالات كُتبت عن الراحل خاصة بعد وفاته، كما صدر قبلها كتاب بعنوان "أربعينية سعد الله في واد سوف" ب168 صفحة به وثائق وصور وشهادات قدّمت في أربعينيته، علاوة على نشر بعد رحيل سعد الله الكثير من الأعمال منها إصدار المخبر العلمي بوهران من خلال مجلته "عصور جديدة" الذي خصّص 170 صفحة وبلغات أجنبية للحديث عن الراحل وكذا مخبر تاريخ الجزائر ومنطقة المتوسط بجامعة سيدي بلعباس في مجلته "المخبر"، حيث نشرت 14 مقالا علميا بالفرنسية والانجليزية والإسبانية، وسيتم قريبا إصدار 3 مجلدات بلغات أجنبية خاصة بالراحل. تدخل أيضا الدكتور جمال يحياوي من خلال محاضرة بعنوان "تثمين تراث سعد الله الأفق والآليات"، أشار من خلالها إلى أنهّ يمثّل الجيل الثالث من طلبة الراحل، أي أنّه درس عنده في فترة الثمانينيات وذكر أنّه بصدد التحضير لإصدار كتاب بعنوان "هؤلاء عرفتهم"، يتضمّن جانبا من ذكرياته مع هذا العلاّمة. أكّد المحاضر يحياوي أنّه عرف الراحل سعد الله كطالب ثم عندما أصبح محاضرا بالجامعة ثم عندما أصبح مديرا للمركز الوطني للأبحاث التاريخية في الحركة الوطنية وثورة 1 نوفمبر وظلّ معه حتى وفاته. ويرى أنّ تراث الراحل هو تراث الأمة وليس تراث شخص وأنّ ما أنتجه ليس إرثا بل حقا لكلّ الأجيال وتراثه يتعدى التأليف والقراءة، إذ هو سلاح مقاومة ضدّ طمس الهوية الجزائرية، تماما كما كان في الماضي سلاح مواجهة ضدّ قوى الشر، إضافة إلى إمكانية استغلاله في تنمية فكر الحاضر والمستقبل وفي مواجهة العولمة. أما عن آليات هذا التثمين، فإنّ منها تحديد منهج سعد الله العلمي وكذا تعيين وتحيين ما كتبه من أعمال، علما أنّه كتب 5071 صفحة في موسوعة "تاريخ الجزائر الثقافي" و1800 صفحة في تاريخ ٪الحركة الوطنية و1565 في الآراء والمواقف، وإلى غاية وفاته، كان قد كتب 20 ألف و225 صفحة خلال 51 سنة بحث بمعنى أنه كان يكتب بمعدل أكثر من صفحة في اليوم وكان يلتزم بالتأليف حتى وهو مريض بالمستشفى أوحتى حينما كانت زوجته في غرفة التوليد. دعا المحاضر إلى ضرورة استحداث هيئات تعنى بتراثه وإقامة نظام جوائز خاصة بأعماله بعيدا عن الابتذال الحاصل واقتراح مؤسسة أكاديمية خاصة بالبحوث تحمل اسمه، واستحداث وسام وطني باسم سعد الله، يمنح لأحسن البحوث في تاريخ وتراث الأمة. من جهة أخرى، اقترح المحاضر 20 محور بحث خاص بالموسوعة الثقافية، منها الحياة الثقافية والأعلام والمقاومة الثقافية والمعالم والحواضر والفكر والمنهج الجزائري والأنساب والأشراف والأصول والطرق الصوفية والأوقاف والقضاء واللغة العربية والتعليم ونظرته للفترة العثمانية والمصادر والاستشراق والتنصير والرحلات والشعر والأدب والفتوى والتراث الشعبي والتراث الأمازيغي.