تمر اليوم الذكرى ال26 لرحيل أحد أعمدة الفن الرابع بالجزائر وهو عبد القادر علولة، الرجل الذي عشق الركح إلى حد الموت، اجتهد بنضاله الريادي في تأسيس مسرح جزائري متجذّر التهمه من الموروث الثقافي المرتبط بالإنسان، فكان أول من أسس لمسرح “الحلقة” و”القوال”. تتوالى السنوات وتظل ذكرى الراحل عبد القادر علولة في نفوس كل الذين عشقوا الركح والأعمال الراقية، حيث يعد من أهم صناع الحركة المسرحية بالجزائر، صنع بحنكته وإرادته الفولاذية مجد وتاريخ المسرح بالجزائر، لهذا يعتبر الكثير من أهل الفن الرابع أن عبد القادر علولة لم يمت، وهو الحاضر الغائب بأفكاره وأعماله، التي مازالت تقدم إلى يومنا هذا فوق خشبة المسرح. .. سيرته الذاتية عبد القادر علولة كاتب مسرحي جزائري ولد عام 1929 واغتيل عام 1994، وقد ولد في مدينة الغزوات بتلمسان في غرب الجزائر، ودرس الدراما في فرنسا، وانضم إلى المسرح الوطني الجزائري وساعد على إنشائه في عام 1963 بعد الاستقلال، أعماله عادة كانت بالعامية الجزائرية والعربية منها “القوَّال” (1980) و”اللثام” (1989) و”الأجواد” (1985)، و”لتفاح” (1992) و”أرلوكان خادم السيدين” (1993)، وكان قبل مقتله في مارس 1994 يتهيّأ لكتابة مسرحية جديدة بعنوان “العملاق”، ولكن يد الإرهاب الأعمى كانت أسرع، عندما اغتيل شهر رمضان في 10 مارس 1994، على يد جماعة مسلحة لكن شهرة عبد القادر علولة في توظيف شكل الحلقة في مسرحه وهو رفيق قديم لولد عبد الرحمان كاكي على درب الفن، غطت على كل التجارب الأخرى، لكونه صرف كل جهوده في الأعوام الخمس عشرة الأخيرة من حياته لبناء مسرح مستلهم من “الحلقة” شكلاً وأداء، بعد أن توصل من خلال الممارسة العملية إلى قناعة شخصية أنّ القالب المسرحي الأرسطي ليس هو الشكل الملائم الذي يستطيع أن يؤدّي به رسالته الاجتماعية، في البيئة التي يتعامل معها، وقدم خلالها خمسة أعمال فنية ثرية. .. يصنع الحدث في مؤتمر برلين 1987 في محاضرة له ألقاها في برلين سنة1987 في المؤتمر العاشر للجمعية الدولية لنقاد المسرح، يتحدث عبد القادر علولة عن الطريق التي قادته إلى اكتشاف مسرح الحلقة، ويبدو من حديثه أنه اكتشف هذا الشكل بالمصادفة، وبالتحديد عن طريق احتكاكه بالواقع الحي حين أصبح يتنقل بفرقته في جولات فنية لتقديم العروض خارج صالات العرض المعروفة، أي على طلاب الثانويات والجامعات، وعلى عمال الورشات والمصانع، وعلى الفلاحين في الحقول، مع العلم أنه كان قد أحس من قبل بضرورة البحث عن شكل جديد يبعد العروض المسرحية عن التكرار الممل، وعن طغيان الخطاب السياسي المباشر الذي يكاد يحولها إلى بيانات سياسية. ويقول علولة شارحا تجربته الجديدة التي قادته إلى اكتشاف مسرح الحلقة، وفي خضم هذا الحماس، وهذا التوجه العارم نحو الجماهير الكادحة، والفئات الشعبية، أظهر نشاطنا المسرحي ذو النسق الأرسطي محدوديته، فقد كانت للجماهير الجديدة الريفية، أو ذات الجذور الريفية، تصرفات ثقافية خاصة بها تجاه العرض المسرحي، فكان المتفرجون يجلسون على الأرض، ويكونون حلقة حول الترتيب المسرحي (La disposition scénique)، وفي هذه الحالة كان فضاء الأداء يتغير، وحتى الإخراج المسرحي الخاص بالقاعات المغلقة ومتفرّجيها الجالسين إزاء الخشبة، كان من الواجب تحويره، كان يجب إعادة النظر في كل العرض المسرحي جملة وتفصيلا. وأمام هذا الوضع وجد الكاتب وزملاؤه في الفرقة أنفسهم مرغمين على إدخال بعض التعديلات، فألغوا في البداية جزءاً من الديكور، لكنهم وجدوا أنفسهم بعد عشرة عروض بدون ديكور، ولم يبق في الفضاء المسرحي حسب رواية الكاتب دائما إلا بعض الإكسسوارات ذات الضرورة القصوى. ثم أعقب هذا التعديل في الديكور تعديل مماثل في الأداء التمثيلي أيضا، يتلاءم مع الوضع الجديد، لأن رد الفعل لدى هذا الجمهور كان مختلفا تماما عما ألفوه من جمهور الصالات المغلقة، فهو لا يريد أن يكون منعزلا عن اللعبة وعن الممثلين، وهنا يتساءل علولة قائلا: “ما العمل عندما يكون المتفرج أمامك ووراءك ؟ لقد وجب إذن إعادة النظر فيما كان عليه أداء الممثل”، وقد اكتشف الكاتب شيئا آخر في هذا الجمهور عندما لاحظ أن بعض المتفرجين كانوا يديرون ظهورهم للعرض، لكي يتسنى لهم حسب تفسيره التركيز على السمع، وهو ما جعله يستنتج من هذا السلوك أن ما يعنيهم بالأساس ليس هو ما يشاهدونه ولكن ما يسمعونه، ولاحظ أيضا أنهم كانوا يتمتّعون فعلا بطاقة إنصات وحفظ خارقة للعادة، وتجلى له ذلك من خلال النقاش الذي كان يتبع العرض عادة. ويخلص في الأخير إلى القول “عن طريق هذه التجربة التي استدرجتنا إلى مراجعة تصورنا للفن المسرحي، اكتشفنا من جديد حتى وإن بدا هذا ضربا من المفارقة الرموز العريقة للعرض الشعبي، المتمثل في الحلقة، إذ لم يبق أي معنى لدخول الممثلين وخروجهم، كل شيء كان يجري بالضرورة داخل الدائرة المغلقة، ولم تبق هناك كواليس، وكان يجري تغيير الملابس على مرأى من المتفرجين، وغالبا ما كان الممثل يجلس وسط المتفرجين بين فترتي أداء لتدخين سيجارة، دون أن يعجب من ذلك أحد”. .. علولة الأول يستلهم من جمهوره وعلى هذا النحو يمكن القول أن الأدوار انقلبت، فعوض أن يعلم الكاتب الجمهور، مثل ما يدعي معظم الكتاب الملتزمين، نجد علولة هنا يعترف بكل تواضع بأنه تعلم من الجمهور، وأنه اكتشف عن طريقه مسرح الحلقة، أو فن الدراما الشعبية، حيث يلتحم الممثلون والمتفرجون في بوتقة واحدة ليصنعوا معا فن الفرجة.. ولعل هذا الرأي يلتقي تماماً مع ما اكتشفه الكاتب المسرحي عبد القادر علولة الذي سنتحدث عن تجربته في الميدان العملي، وذلك حين يقول “إن النقطة التي ننطلق منها لتحقيق المسرح المحكي ليست ماثلة في أن لنا تراثاً قصصياً يمكن إعادة تشكيله مسرحياً، وإنما القضية هي أن لدينا تراثاً قصصياً ذا طبيعة مسرحية، يصدر عن خيال مسرحي، وفهم متميز لمطالب المشهد، والموقف، والشخصية، وسائر عناصر البناء المسرحي، غير أنه كتب بأسلوب الحكاية وليس الحوار، لأن أسلوب الحكي كان الأسلوب المستقر والممكن، ولأن الأذن العربية هي الطريق المدرب لالتقاط الجمال، ولأن التمثيل لم يكن نشاطاً فنياً اجتماعياً يتعامل مع المستويات الأدبية الكتابية. .. مسرح علولة بين “الحلقة” و”القوال” يعد المؤلف والمخرج المسرحي عبد القادر علولة واحد من أهم المخرجين الجزائريين بل العرب الذين يعملون على تكييف أفكار برشت وانجازات المسرح الملحمي للجمهور الجزائري من خلال ربطها مع المخزون الهائل من التراث والثقافة الشعبية العربية عموما . معتمدا على أهم وسائل التوصيل التي تحقق العلاقة الفعالة بين الفنان والمشاهد . ولهذا فانه يبحث في التراث الجزائري والعربي عن تلك الأشكال الماقبل المسرحية أو الدرامية وربطها بمفاهيم المسرح الملحمي لتكييفها حتى تنسجم مع متطلبات عرض مسرحي لجمهور ومجتمع ليس أوربيا . وتحقيقا لهذا الهدف قام علولة بإحلال القوال بدلا من الراوي البرشتي الشرق الجذور أصلا ، حيث يمكننا أن نجدها في التراث الشعبي العربي وتراث المغرب العربي بالتحديد. ومهمة هذه الشخصية هي رواية وتمثيل الأحداث والقصص التاريخية التي لها مكانتها في الذاكرة الشعبية وكذلك الأحداث المعاصرة في الأسواق والساحات العامة وأماكن تجمع الناس الذين يشكلون جمهوره عادة. ويمكن حتى يومنا هذا مصادفة القوال في أسواق الجزائر والمغرب العربي الشعبية وهو يقص على الجمهور حكاياته التاريخية أو المعاصرة مازجا إياها ببعض المشاكل السياسية التي تثير جماهير السوق .. وبهذا فإن الممثل في مسرحيات هذا المخرج أصبح قوالا ووظيفته “كراوية” أصبحت أكثر تأثيرا، عندما امتزجت بتقنية التجربة العالمية، بحيث أصبح القوال يلعب الدور الأساسي في الحدث.وأصبح العرض المسرحي سرديا وبهذا فإنه اقترب من المسرح الملحمي البرختي. فيقوم الراوي ( القوال ) بكسر مجرى الأحداث ليس في النص فحسب ( إن المخرج هو الذي يكتب مسرحياته عادة) وإنما في الأداء والعرض. ولهذا فإن الممثلين هم رواة أو قوالين، إضافة إلى كونهم يؤدّون أكثر من دور. (ويعتبر هذا متماشيا مع طبيعة الحياة الاجتماعية العربية و المسرح والجمهور العربي). عمل علولة على تحقيق مسرح “الحلقة” شكلاً وأداء وإنتاجية وفرجة، بعد أن توصل من خلال الممارسة العملية إلى قناعة شخصية أن القالب المسرحي الأرسطي ليس هو الشكل الملائم الذي يستطيع أن يؤدي به رسالته الاجتماعية، في البيئة التي يتعامل معها، وقدم خلالها خمسة أعمال فنية ثرية. ونتيجة لارتباط مسرح الحلقة بتراث وتاريخ الجمهور العربي يحتم فرض شكل ومضمون وتكنيك الفرجة المسرحية والتواصل مع الجمهور مما فرض أن يجري كل شئ داخل الحلقة المغلقة، وفرض أيضا اختزال الديكور إلى ادوار ضرورية فقط، وتغير في تكنيك الأداء المسرحي أيضا، يتلاءم مع الجمهور الذي يحيط العرض والذي يصغي ويشاهد هذا السرد الذي يبنيه علولة في عروضه.