انطلاق الدورة ال38 للجنة نقاط الاتصال للآلية الإفريقية للتقييم من قبل النظراء بالجزائر    قانون المالية: المحكمة الدستورية تصرح بعدم دستورية التعديلات الواردة على المواد 23 و29 و33 و55    الجزائر ترحب "أيما ترحيب" بإصدار محكمة الجنايات الدولية لمذكرتي اعتقال في حق مسؤولين في الكيان الصهيوني    هذه حقيقة دفع رسم المرور عبر الطريق السيّار    توقيف 55 تاجر مخدرات خلال أسبوع    سوناطراك تجري محادثات مع جون كوكريل    تقليد المنتجات الصيدلانية مِحور ملتقى    اللواء سماعلي قائداً جديداً للقوات البريّة    عطاف يتلقى اتصالا من عراقجي    مكتسبات كبيرة للجزائر في مجال حقوق الطفل    حوادث المرور: وفاة 11 شخصا وإصابة 418 آخرين بجروح بالمناطق الحضرية خلال أسبوع    توقيف 4 أشخاص متورطين في قضية سرقة    أكثر من 500 مشاركاً في سباق الدرب 2024    الجزائر العاصمة.. وجهة لا يمكن تفويتها    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    اجتماع تنسيقي لأعضاء الوفد البرلماني لمجلس الأمة تحضيرا للمشاركة في الندوة ال48 للتنسيقية الأوروبية للجان التضامن مع الشعب الصحراوي    فلاحة: التمور الجزائرية تصدر إلى أكثر من 90 دولة    رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    وزير الصحة يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة:عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 44056 شهيدا و 104268 جريحا    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    غزة: 66 شهيدا و100 جريح في قصف الاحتلال مربعا سكنيا ببيت لاهيا شمال القطاع    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    الملفات التي تمس انشغالات المواطن أولوية    الجزائر تتابع بقلق عميق الأزمة في ليبيا    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    "صفعة قانونية وسياسية" للاحتلال المغربي وحلفائه    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    مجلس الأمن يخفق في التصويت على مشروع قرار وقف إطلاق النار ..الجزائر ستواصل في المطالبة بوقف فوري للحرب على غزة    40 مليارا لتجسيد 30 مشروعا بابن باديس    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    مصادرة 3750 قرص مهلوس    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    خلال المهرجان الثقافي الدولي للفن المعاصر : لقاء "فن المقاومة الفلسطينية" بمشاركة فنانين فلسطينيين مرموقين    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    هتافات باسم القذافي!    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الانتفاضات العربية والاستثمار في الاستقرار
نشر في الحياة العربية يوم 23 - 08 - 2020

يجادل كاتب هذا المقال بأن هناك طلب متزايد علي الاستقرار من الأطراف الفاعلة كافة في المنطقة العربية، بما يدفعها جميعا للاستثمار فيه، إلا أن التنافس فيما بينها حول تحديد مضمونه ومحاولة فرضه أحد الأسباب الأساسية وراء ما بات يعرف في دراسات المنطقة "بالاضطراب العربي".
يزعم البعض أنه بدون الوصول إلى حد أدنى من التوافق على تحديد ما المقصود بمكونات الاستقرار ستظل المنطقة في وضع تتهدد فيه مصالح جميع الاطراف؛ داخلية وخارجية، وإقليمية ودولية، في هذا التصور يعد مدخل الأمن الإقليمي الجماعي هو المدخل الرئيس لتجنب "الموت الجماعي".
ويطرح البعض الآخر ضرورة استعادة الولايات المتحدة لدورها الفاعل في تحقيق الأمن، وذلك بعد انسحابها وتراجع الاهتمام بالمنطقة، في حين يناقش البعض كلا من الدور الروسي الذي شهد تعاظم حضوره في قضايا ونزاعات المنطقة، ودور كلا من الاتحاد الأوروبي بدوله التي لم تصل إلى حد أدنى من التوافق حول تمثيل مصالحها، ودور الصين المتصاعد التي زادت شراكتها الاقتصادية دون الأمنية بما يعنيه من عدم رغبة في تورطها في صراعات المنطقة. (انظر نقاشاً لهذه التصورات في مقالاتي في الهامش).
المشكل في هذه التصورات أنها تغلب الفواعل الإقليمية والدولية في صياغة مفهوم الاستقرار، وكأن المنطقة خواء، ومع قناعتي أن أحد التداعيات الهامة لحقبة الربيع العربي أنه جرى تدويل السياسات الداخلية، إلا أن هذا التدويل الذي زاد أكثر مما ينبغي، قد ثبت -بعد عقد من السنين- فشله بما يستدعي البحث عن مداخل أخرى تساهم -مع الاقتراب الإقليمي/الدولي- في الوصول إلى الاستقرار المنشود من الجميع.
..حقبة الربيع العربي
المدخل الذي أطرحه هنا هو ضرورة الانطلاق من فهم أعمق لحقبة الربيع العربي وما خلفته من تداعيات وما أثارته من قضايا، وأنه دون الوصول إلى هذا الفهم مع السعي للتعبير عنه وصياغته في مشاريع لإعادة بناء الدولة العربية المأزومة؛ فسيظل ما يحكم نظرة الفواعل الدولية للمنطقة هو: "الحد من الآثار السلبية لمشاكل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على مناطق أخرى من العالم".
..سردية الانتفاضات العربية
يجادل كاتب هذه السطور أن هناك سردية جديدة لانتفاضات الربيع العربي تعلن نهاية صيغ القرن 20، وفي القلب منها دولة ما بعد الاستقلال والحركات السياسية الإسلامية والعلمانية التي استندت إلي أيديولجيات شمولية، وأننا بصدد صيغ جديدة لم تتمأسس بعد؛ فقد غلب عليهاالاحتجاج و افتقدت إلى بلورة قاعدتها الاجتماعية الحاضنة والدافعة لها.
القراءة التاريخية لانتفاضات الربيع العربي هي أننا أمام إعادة تشكل للتاريخ كله في المنطقة، نحن أمام محطة تاريخية فاصلة: فالقديم قاد إلي الانفجار، ولم يعد قادرا على تقديم استجابات لتحديات المجتمع والدولة؛ لكن الجديد لم يتبلور بعد، وهذه هي مهمتنا التاريخية كما أعتقد، واللحظة تمتلئ بالكثير والكثير مما يصب في المستقبل، وبمقدار قدرة الفواعل الاجتماعية علي التقاط مقومات هذه اللحظة بمقدار ما سنكون على أول طريق الاستقرار.
أنا أدرك أن مشاريع الماضي المرتحل لم تكن مجرد صياغات وعبارات عابرة تحملها قوة السلطة بالمعنى الذي يقدمه فوكو، إنها شكل ومقترح للحياة، ولطبيعة المجتمع بشبكة علاقاته وهي خطاب وممارسة لتصورات وخيال سياسي واجتماعي واقتصادي، وتصور معرفي للحياة والدولة، تنبثق عنهما أعراف وتقاليد ومؤسسات ولغة وتصور للمجتمع ولأفراده، تصور للذات والآخر يعبر عن نفسه في قوانين وتشريعات ودستور وعلاقات إنتاج.
لذا فإن الحوار بين الجديد القادم والقديم المرتحل مسألة ضرورية لتحقيق الاستقرار. نحن نعيش فترة انتقالية تستدعي الطمأنة المتبادلة وإدراك مصالح الجميع لدمجها بعناية في مشاريع الاصلاح.
..ضرورة إدراك الزمن الانتقالي
سردية الانتفاضات العربية بحث عن عقد اجتماعي جديد يتم به إعادة بناء الدولة الوطنية بنخب جديدة، ويستند هذا العقد إلى مقومات ثلاثة: الحرية/الديموقراطية، والعدالةالاجتماعية/التوزيع العادل للموارد، وتحرير الإرادة الوطنية من الهيمنة الإقليمية والدولية. هذا الحلم قوته المحركة أجيال جديدة من الشباب مع حضور نسائي طاغ، هذا الحلم تؤيده شرائح اجتماعية متسعة إلا أنه في نفس الوقت يثير هواجس ومخاوف فئات أخرى من تداعياته التي باتت حقيقة مؤكدة في بلده أو في بلدان مجاورة؛ ففي رأيهم أنه قوّض الاستقرار السياسي والاقتصادي في عدد من الدول، وأشعل حتى الآن 3 حروب أهلية، وترك 10ملايين لاجئ معظمهم في سوريا ولبنان والأردن وتركيا، يحاول البعض إلصاق عدم الاستقرار وتصاعد الصراعات بحقبة الربيع العربي.
هذا الحديث يغفِل عددا من الاعتبارات:
– 1ضرورة التمييز بين جوهر الربيع العربي وبين عدم القدرة على إدارة مقتضيات الفترات الانتقالية.
الربيع العربي -كما قدمنا- في موجتيه تطلع الشعوب العربية وخاصة الفئات الشابة منها للحرية والعدالة الاجتماعية والحكم الرشيد، واحتجاج على الفساد وسوء توزيع الدخل، وهو تعبير -من وجهة نظري- عن تحول تاريخي في المنطقة يعلن نهاية الصيغ القديمة في السياسة والثقافة والاقتصاد والاجتماع، وبحث عن جديد لم يتبلور بعد. هو إعلان عن نهاية حقبة وبداية حقبة جديدة، فالمنطقة تعيش في طور انتقالي بين الحقبتين: القديم مرتحل والجديد لم يتمأسس بعد. ومن ثم فنحن نعيش مرحلة خلو العرش بتعبير زيجموند باومان في كتابه: "الحداثة والهولوكوست".
أما الفشل في إدارة الفترات الانتقالية فحدث ولا حرج ومن كل الأطراف؛ قوى التغيير لم تدرك طبيعة الزمن الانتقالي فلم تسع إلى بناء التوافقات فتعض عليها بالنواجذ؛ فنجاح مسار بعد الثورات لا يعد دائما أمرا مؤكدا، وأحد محددات تحقيق الثورات أهدافها هو كيف تتصرف نخب التغيير.
وقوى الثورة المضادة- وطنيا وإقليميا- حركتها وما تزال مصالحها الضيقة الآنية فأشعلت الصراعات في كل ركن.
– 2نزاعات الفترات الانتقالية -عادة- تسودها الهواجس والمخاوف لا الحقائق والوقائع؛ ومن ثم فلا قدرة على بناء التوافقات المرحلية أو القطع مع الممارسات السياسية القديمة التي سبقت التغيير.
ما يميز الفترات الانتقالية هو انبعاث التناقضات المسكوت عنها؛ حين يتصاعد الجهوي/المحلي، والإثني، واللغوي، والطائفي، والمذهبي والديني، بالإضافة إلى المطالب الاقتصادية والاجتماعية من دون تطوير مقاربات واقتراحات جديدة للتعامل مع هذه التناقضات فسيكون تحقيق الاستقرار أمرا مستحيلا.
نحن ندرك أن الانتفاضات كانت لحظة كاشفة لمجمل أوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية؛ لكنها في نفس الوقت تؤدي إلى تسريع العوامل والديناميكيات الكامنة والظاهرة وتدفع إلى التفاعل بأشكال وصيغ جديدة.
كما تتسم الفترات الانتقالية بطرح سؤال الهوية الوطنية، وقد أجمعت الدراسات أن لا نجاح لتحول ديموقراطي ولا تحقيق للاستقرار على المدى الطويل دون التوافق على هوية وطنية جامعة، ومع قناعتي أن الانتفاضات الديموقراطية العربية سوف تساهم في بلورة الهوية الوطنية كما يجري في لبنان والعراق، إلا إنه يجب أن نكون متنبهين لاستخدام معارك الهوية لتبرير الصراع السياسي، وكذا محاولة بعض الهويات الفرعية الهيمنة على المشهد السياسي، مثل أكراد العراق أو شيعة لبنان أو مسيحيي مصر أو سنة البحرين؛ ساعين لتحقيق بعض المكاسب الجزئية على حساب بناء الهوية الوطنية الجامعة، ومما فاقم الأمر؛ انبعاث الوعي بمشاريع متناقضة تثير حماسة جهات معينة وهواجس فئات أخرى مثل الحديث عن المشروع الإسلامي أو العثمانية الجديدة أوالهلال الشيعي.
في الفترات الانتقالية تهيمن الهواجس على الجميع لذا فلا حكم إلا بالتراضي، ويجب أن تكون هناك دائما سياسات وخطابات طمأنة لمواجهة الشعور بعدم الأمان على المصالح؛ مصالح الدول والفئات الاجتماعية، والهوية، والقوى السياسية والحزبية الأضعف، والأقليات العرقية والثقافية والمذهبية والدينية.
يتسم الطور الانتقالي العربي بأن الدولة باتت محل تساؤل بحيث يصير من المطلوب بناؤها بإعادة التفكير فيها؛ فالتحدي الأساسي الذي تواجهه الجماعة الوطنية في كل قطر عربي هو إحداث تحول ديموقراطي ذا جوهر اجتماعي؛ أحد شروط نجاحه إعادة بناء الدولة؛ لكن من خلال طرح صيغ جديدة لإعادة البناء. فقد انتهت صيغة دولة ما بعدالاستقلال، ويجري ذلك في ظل تحلل لمفهوم الدولة في مخيال المواطن العربي وتبديد للرأسمال التاريخي الذي أنجز على مدار القرن الأخير في بعض الأقطار، والذي سمح بإنشاء عدد من المؤسسات ذات التقاليد الراسخة التي أدت لقيام الدولة بأداء وظائفها باستقلال عن توجهات النظام السياسي. بحيث بتنا الآن أمام معضلة تصيب كل الدول العربية، وهي أن استمرار الدولة مرهون باستمرار النظام السياسي الحاكم، خاصة في ظل تحلل الدولة الوطنية إلى عناصرها الأولية من طائفية وقبلية وإثنية وجهوية ومذهبية.
نقطة الانطلاق في التعامل مع الزمن الانتقالي هي أنها مرحلة مؤقتة تمهد لطور جديد، لذا يجب ألا تحكمها منطق المبارات الصفرية بين القديم والجديد؛ لكن المساومات والمفاوضات والوصول إلى نقاط وسط تدمج مصالح الأطراف الفاعلة في الصيغ المطروحة، وأزعم أن الدول التي استطاعت أن تحقق قدرا من الاستقرار مثل المغرب وتونس اتبعت استراتيجيات مختلفة في هذا الصدد؛ فالمغرب دمج عددا من المطالب الإصلاحية في النظام القائم إلا إنه لا يمكن المراهنة علي تعميق الاستقرار على المدى الطويل دون استيعاب أكثر اتساعا للمطالب الاجتماعية في بنية النظام، أما تونس فقد مرت تجربتها بمرحلتين والثالثة تعيد طرح سؤال الاستقرار مرة أخرى: الأولى بنيت على توافق بين قوى التغيير الأساسية؛ قومية وإسلامية ويسارية، والثانية على اتفاق بين المعتدلين من النظام القديم(السبسي)، والقوى الإسلامية الأساسية (النهضة).
أما دول الموجة الثانية من الربيع العربي الأربعة فلم تستطع أن تصل حتى الآن إلى صيغ توافقية بين القديم والجديد، وما تزال التجاذبات بينهما يحكمه منطق المباراة الصفرية، وإن بدا غير ذلك كما في السودان، أو الالتفاف على مطالب الإصلاح كما في الجزائر والعراق، أو صم الآذان كما في لبنان.
..مكونات تعميق الاستقرار
إذا كان المكون الأول للاستقرار طويل المدى هو إدراك طبيعة الطور الانتقالي بالوصول إلى صيغ توافقية بين القديم والجديد لإعادة بناء الدولة، فإن المكون الثاني هو دمج الديموقراطية في المطالب الاجتماعية لجمهور المواطنين؛ فهذا الدمج هو مكون أساسي للشرعية كما طرحته الانتفاضات العربية، وهنا نقطة جديرة بالنقاش: تحقيق الأمن دون النمو الاقتصادي قد يؤدي إلى نوع من الاستقرار على المدى القصير فقط؛ لكنه لن يعالج المطالب الشعبية بالحصول على الفرص الاقتصادية والكرامة، وعلى العكس من ذلك، فإنه من دون ضمان الأمن تكون المبادرات الاقتصادية للحكومة عُرضة لتهديدات متزايدة من العنف خارج نطاق القانون، ومثال على ذلك ليبيا.
إن النمو الاقتصادي القوي هو مؤشر قوي للتنبؤ بالاستقرار، وبالمثل لا يرتبط النمو الاقتصادي المنخفض دائما بعدم الاستقرار، ولكن ما تهمله مؤشرات النمو هو التفاوت بين المواطنين وتوزيع الثروة، إلى جانب رضا الجمهور، ومستوى الخدمات، والرعاية الصحية، والمياه النظيفة، والسكن ميسور التكلفة، والآراء السياسية.
وهنا يصبح التعليم أحد مكونات الاستقرار، فإذا كنت جادا بشأن تغيير الاقتصاد وتدريب الناس على العمل في القرن 21، فهذا هو المكان الذي يتعين عليك البدء منه، ويرتبط بالنمو الاقتصادي والتعليم "تضخم الشباب" الذي يعني المزيد والمزيد من الشباب والشابات في الاقتصادات التي لا يمكن أن توفر لهم وظائف منتجة، أو مدخولا مجديا للفرد، بما يجعل أي خطابات عن الاستقرار دون النظر إلى أوضاعهم لا معنى لها.
ولا يمكن أن نترك هذا المكون دون أن نشير إلى أن تركيز الجمهور العربي على ضرورة تحسين الظروف المعيشية اليومية لا يعني أنهم غير مهتمين بتحسين الحكم أو أنهم يرفضون الديمقراطية. لا يعتقد العرب -كما أشار الباروميتر العربي في استطلاعاته- أن الديمقراطية سيئة بطبيعتها، وبدلا من ذلك، فقد تبنوا نهجا قائما على النتائج تجاه الديمقراطية، نهجا لا يوفر الشرعية وحكم القانون فحسب؛ بل أيضا الظروف الاجتماعية والاقتصادية المزدهرة.
..دمج الاستقرار بالديمقراطية
وهو المكون الثالث من مكونات تعميق الاستقرار؛ وفيه يجب التنبه إلى أن الفوضى هي عدو الديمقراطية، وعندما يضطر الناس للاختيار بين الفوضى وأي شيء آخر، فسيختارون أي شيء آخر، بما في ذلك مستبد غاشم.
في هذا الصدد، لم تعد الفواعل الدولية والإقليمية وبالطبع النظم الحاكمة العربية تنظر إلى الديمقراطية والاستقرار على أنهما وجهان لعملة واحدة، أيقظت هذه الفواعل مصالحها الأمنية وعادت إلى الاستقرار باعتباره الخيار العقلاني المفضل في المنطقة على حساب الديمقراطية المتقلبة حديثا، ويبدو أن إحدى الإستراتيجيات التي باتت تهيمن عليهم أنه من الأفضل أن تتوافق مع من هو في السلطة -أيا كان- من أجل مواصلة التعاون الأمني، وهكذا تستعيد هذه الفواعل توجهها وخطواتها العملية، لأنها ترى أن الحكم الاستبدادي في سياق ما بعد "الربيع العربي" أقل شرا عند مقارنته بالاضطرابات المحتملة، وفشل الدولة، والراديكالية.
صحيح أن الربيع العربي أثبت في بدايته أن الأمر لم يعد كذلك، إلا أن تداعيات الموجة الأولى ألقت بظلالها على هذا، ثم جاءت الموجة الثانية لتؤكد أن: الأوتوقراطية، مهما بدت "مستقرة"، غير مستدامة، ولا يمكن كبح النضال من أجل الحرية والكرامة والديمقراطية، والطريق إلى الاستقرار على المدى الطويل في المنطقة هو من خلال التزام ديمقراطي طويل الأمد، فالربيع العربي جاء -كما قدمنا- تتويجا لإخفاقات النخبة الحاكمة في بناء الدولة وبناء التوافق. لقد أعلنت المظاهرات واسعة النطاق التي قادها الشباب المحبطون عن موت المبادئ التي قامت عليها دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأظهرت كذلك حدود الإكراه والمركزية والمحسوبية في هيكل الحكم في المنطقة، وعلاوة على ذلك كشفت أيضا عن انخفاض مستويات الالتزام بهياكل الدولة والعقود الاجتماعية القائمة.
والأمر المهم الذي كشفته الانتفاضات هو إدراك أن الدول لم تعد الفاعل الوحيد في المنطقة، ومن هنا تم تقديم الديمقراطية التوافقية كبديل لاستيعاب كافة المجتمعات في خطة شاملة لتقاسم السلطة، كما أن الحكومات التي تحكم من خلال القوة الوحشية، دون أي شرعية في نظر سكانها، أو محاولة القضاء على مكونات ما دون الدولة، هي في النهاية نظم غير مستقرة وغير موثوقة.
وإذا تخيلنا أن في تغليب الاستقرار على الديموقراطية قضاء على الإرهاب، فإن المتغير الوحيد الذي ارتبط بشكل ثابت بعدد الإرهابيين كان مؤشر بيت الحرية للحقوق السياسية والحريات المدنية؛ وفيه أن البلدان التي تتمتع بقدر أكبر من الحرية كانت أقل عرضة لتكون مسقط رأس الإرهابيين الدوليين.
تقدم بعض الدراسات 3 تفسيرات لتراجع اهتمام بعض الفئات الاجتماعية العربية بالديمقراطية مدعومة بنتائج الباروميتر العربي: تراجع تصورات السلامة والأمن وخاصة علي المستوى الشخصي، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وتصور متزايد لعدم المساواة بسبب تزايد الطائفية والفساد. وأتساءل مع هذه الدراسات هل استطاعت الدول التي شهدت نكوصا عن الديموقراطية للقمع، أو تلك التي شهدت التفافا على المطالب الديمقراطية هل استطاعت أن تضمن لمواطنيها هذه العناصر الثلاثة؟
ألخص فأقول:
– 1الاستقرار في الزمن الانتقالي؛ الذي هو زمن مؤقت يمهد لحقبة حديدة، يتطلب توافق مؤقت بين القديم والجديد علي بناء الدولة، بما يعنيه ذلك من عناصر للاستمرارية لبعض القديم وتغير يتأتي من الجديد.
– 2الاستقرار له أبعاد دولية وإقليمية؛ إلا إنه في جوهره طلب محلي تحدد مكوناته التوافقات التي تصل إليها الفئات الاجتماعية في مرحلة تاريخية ما، ودور الأنظمة السياسية هي التعبير عن لحظة التوافق هذه بسياسات عامة تضمن صيانته والحفاظ عليه.
– 3إن البحث عن الاستقرار أمر مفهوم ومطلب مشروع للفواعل جميعا، إلا أن دعم عودة الاستبداد يؤدي إلى نتائج عكسية بالنسبة للاستقرار ذاته على المدى الطويل.
الجزيرة نت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.