فاجأت الثورات العربية التي أطاحت حتى الآن بثلاثة أنظمة استبدادية وتهدد أخرى منذ اندلاع شرارتها الأولى في منتصف ديسمبر 2010، العديد من الأطراف الداخلية والخارجية. قليلون هم الذين انتظروها وكثيرون قبلوا بها على مضض. ومع ذلك، تظل النتائج المتوقعة من الربيع العربي والآثار العميقة التي ستنجر عنه، غير واضحة المعالم بما فيه الكفاية حتى الآن.فالتوقعات متباينة، بين متفائل متطلع لنجاح العملية الديمقراطية التي سوف تجلب الإستقرار والرفاهية للبلدان المعنية، وبين متشائم، يخشى فوضى سياسية قد تهدد إستقرار المنطقة بأكملها لفترة طويلة. التطوّرات الميدانية في مختلف البلدان التي شهدت تغيّرات خلال السنة الجارية، تعطي لكل طرف شيئا من المعقولية، وتبيّن أن مصير هذه الثورات قد يختلف من بلد إلى آخر.لمحاولة فهم هذا الحراك واستشراف مستقبل المنطقة العربية وتحديد دور الأطراف المحلية والدولية في ذلك، اجتمع العديد من الخبراء والمحللين السياسيين من بلدان عربية وغربية بجامعة زيورخ السويسرية، وكان من بينهم المفكّر المصري والخبير التنموي الدكتور نادر فرجاني، رئيس مركز المشكاة للبحوث والتدريب، والدكتورة سلوى زرهوني، أستاذة العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط، وفيما يلي نص الحوار الذي أجرته معهماسويس انفو بجامعة زيورخ. التحول الذي شهدته تونس، ومن بعدها مصر، وبلدان أخرى مجاورة فاجأ أصحاب القرار في العديد من العواصم العربية والغربية، كمثقفيْن ومحلليْن سياسيين، فهل فوجئتما أنتما أيضا بذلك؟ نادر فرجاني: بالتأكيد المفاجأة كانت في التوقيت، وفي حجم الظاهرة وتطوّرها. ولكن قبل حدوث ما حدث في كل من تونس ومصر، كانت لي شخصيا كتابات بشّرت فيها بهذا الواقع الجديد. سلوي زرهوني: لم أفاجأ بالربيع العربي في حد ذاته، لأن العديد من الدراسات الإجتماعية والسياسية التي اهتمت بالعالم العربي في السنوات الأخيرة كانت تتوقع حدوث حالة من التمرد من الشعوب العربية على الأوضاع القائمة المتردية. لكن المفاجئ في كل ذلك هو التوقيت، وأن تأتي المبادرة من تونس. في المغرب على الأقل، تعرف المملكة منذ عدة سنوات تصعيدا للإحتجاجات، ودخلت أشكال مختلفة من التظاهرات والتحركات ضمن الثقافة السياسية السائدة في البلاد. لكن أن ينطلق الربيع العربي من تونس التي ينظر إليها على أنها دولة بوليسية، تعرضت فيها جماعات المعارضة المختلفة إلى اضطهاد وتضييق شديديْن، ونجح فيها بن علي في فرض حالة من الإستقرار، واسترضاء جزء معم من الطبقة الوسطى. هذا هو وجه المفاجأة. برأيكما، هل ما حدث كان ثورات وطنية تعبّر عن تطلعات شعبية إلى مستقبل أفضل، أم أن الأمر، كما يقول البعض، مخططات خارجية لإعادة رسم جغرافية النفوذ، واقتسام الموارد؟ نادر فرجاني: ما حدث كان بالتأكيد انتفاضات وطنية وبداية لثورات شعبية حققت بعض أهدافها ولم تكتمل، ومنطقي أن كل القوى الفاعلة في المنطقة وفي العالم نتيجة لأهمية هذا الإقليم ستحاول أن تجد لنفسها وسيلة للتعامل مع هذا الحدث الضخم، ولكنني أستبعد تماما نظرية المؤامرة الكاملة. لا أستبعد أن يكون عند القوى الفاعلة في المنطقة وفي الإقليم تصورا عن كيفية التعامل مع هذه الظاهرة، وأن تحاول تشكيلها لخدمة مصالحها. هذا أمر طبيعي ومنطقي، وهو أحد المداخل لما يمكن تسميته بالقوى المعادية للثورة. يجب أن ندرك أن هناك قوى داخل البلدان المعنية، وفي الإقليم، وحتى على مستوى العالم، ليس من مصلحتها أن تكتمل هذه الثورات. سلوي زرهوني: أنا أرفض نظرية المؤامرة، وعندما ننظر بشكل موضوعي للظروف الإجتماعية والإقتصادية في هذه البلدان، نجد أن هناك مطالبات ملحة بالتغيير، لكنني أعتقد أن عوامل أخرى كثيرة تؤثر في عملية التغيير في حد ذاتها. لا يوجد عاقل يعتقد أن الأمريكيين ترجوا وطلبوا من محمّد البوعزيزي أن يحرق نفسه، وأنهم هم الذين دفعوا من حمل المشعل من بعده. لكنه من المنطقي إعارة أهمية كبرى لتأثيرات المحيط الإقليمي والعالمي على عملية التغيير الجارية حاليا في المنطقة، ومن دون شك هناك العديد من الأطراف الدولية التي تحاول توجيه هذه العملية والتأثير في ما سينجرّ عنها. هناك بعض المحللين يتوقّفون عند الأدوار التي لعبتها كل من قطر والولايات المتحدة، والمملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، وإذا كان البعض من هذه القوى قد عمل من أجل إذكاء هذه الإنتفاضات، فإن البعض الآخر اختار دعم قوى الثورة المضادة، ويجب التأكيد على أن البعض من هذه الدول يبذل جهودا للحؤول دون نجاح المسار الديمقراطي في هذه المنطقة. كيف تجدان رد فعل النخب العربية وأداءها بعد هذه الثورات؟ وهل ترتقي إلى مستوى المرحلة؟ نادر فرجاني: هنا لابد أن نفرّق بين ما قبل قيام الإنتفاضات الشعبية، وما بعدها. قبل قيام الإنتفاضات، كنت أجد النخب الثقافية خائنة لقضية الوطن والنهضة، وقد تخلت تلك النخب عن دورها كطليعة وكضمير لقوى الشعب. في الأغلب الأعم، اختارت تلك النخب في المرحلة الأولى الإلتحاق بأنظمة الحكم التسلطي الفاسدة، وباتت في خدمتها طمعا في المغانم التي تأتي منها، وهربا من المشاكل التي تتأتى من معارضتها. هذا لا ينفي أنه حتى قبل الإنتفاضات الشعبية كانت هناك أمثلة رائعة من المثقفين الوطنيين، لكن في أغلب الحالات، النخب خانت وظيفتها كضمير وكطليعة. بعد الإنتفاضات الأخيرة، تغيّر دور هذه النخب، ووجدنا بعض المتسلقين الذين خدموا الأنظمة التسلطية يحاولون تسلق الثورة، وتحوّلوا إلى منافقين يستجدون رضاء السلطة الجديدة، ومن ثمة شرعوا في خيانة جديدة بدلا من أن يحرصوا على حماية الثورة واكتمالها. سلوي زرهوني: لا أعتقد أن النخب كانت في مستوى الثورات والإنتفاضات التي شهدتها وتشهدها المنطقة العربية، وليس هناك نخبة واحدة بل نخب كثيرة: هناك نخب الأنظمة، وسواء تعلق الأمر بتونس أم بمصر، حاولوا إعادة التموضع والإنتشار بحسب مقتضيات المرحلة الثورية، فركبوا على الأحداث، وتملكوا خطابا ثوريا، وحاولوا العودة إلى الساحة السياسية من النافذة بعد أن أغلقت أمامهم الأبواب، كما حصل مع الحزب الوطني في مصر أو التجمّع الدستوري الديمقراطي في تونس، اللذين أعادا تشكيل هيئاتهما بحسب مقتضيات المرحلة، وبوجوه شابة جديدة. في تونس، حاول رجال الأعمال الذين كانوا مرتبطين بدوائر السلطة التأثير على توجهات بعض الأحزاب عبر استثمار المال السياسي، أو تمويل قوائم انتخابية. هذه النخب ستحاول بكل ما أوتيت من جهد الحفاظ على امتيازاتها، وهم لن يتركوا المجال السياسي لأنه المجال الحيوي لخدمة مصالحهم. لكن بالإضافة إلى نخبة الموالاة، هناك النخب المعارضة، سواء المعترف بها أم المقصاة من المشاركة. ما هي المخاطر التي تحدق بهذه الثورات، وهل مازال هناك إمكانية لتحوّل الربيع العربي إلى شتاء بارد؟ نادر فرجاني: هذا الربيع قد يتحوّل إلى شتاء لفترة ليست بالطويلة بسبب وصول قوى لا تتعاطف بحق مع غايات الثورة في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ولكن هذه الانتكاسة ستكون مؤقتة، لأن الشعوب في المنطقة العربية قد كسرت حاجز الخوف، ولن تقبل الظلم والقهر مرة أخرى. وصول سلطات انتقالية غير منسجمة مع مطالب الثورات سيستدعي قيام ثورات اجتماعية جديدة متتالية، لكن هذا سيختلف من بلد إلى آخر. فمثلا تونس تعتبر متفوّقة على مصر من حيث ترتيبات الانتقال الديمقراطي، وفي رأيي السلطة الحالية في مصر أساءت التصرّف. أنا أزعم أن الحكم التسلطي في المنطقة العربية سينتهي ربما في خلال عشرة إلى خمسة عشر عاما، لكن الشكل الذي سيتخذه انتصار هذه الشعوب على التسلط سيختلف من بلد إلى آخر، في بعض البلدان ستقوم نظم جمهورية ديمقراطية، وفي أخرى نظم ملكيات دستورية. سلوي زرهوني: أنا متفائلة جدا إزاء المستقبل العربي. لقد التقيت في هذا المؤتمر الذي تستضيفه جامعة زيورخ كثيرا من التشاؤم، كالحديث عن خطر الإسلاميين، أو أن الثورة في مصر قد سرقت وإلى الأبد من طرف الجيش. إني أجد في تجربة تونس أفضل دافع للتفاؤل، والجميع يشاهد اليوم نجاح المسار الديمقراطي في هذا البلد المغاربي. لاشك أن مآلات التجربة التونسية سيكون لها انعكاساتها على بقية التجارب الأخرى. إنه من السابق لأوانه الجزم بأن الثورات العربية قد انتكست، فالثورة الفرنسية استمرت 100 عام، وكان الفرنسيون يقولون إنها لم تحقق كل أهدافها. إذن مرور بضعة أشهر غير كاف لتقييم هذه التحوّلات، لأنها تحوّلات تمر بحالة صعود وهبوط، بحالات عنف واستقرار. في مصر مثلا، لو حاول الجيش قمع التحركات في المستقبل المطالبة بتسليم السلطة إلى المدنيين، فإن ذلك سوف يخلق نفس الشروط التي أدت إلى اندلاع ثورة أخرى في الشارع. الشعوب العربية لن تقبل بعد الآن الظلم والقمع، ولن تسلّم أمرها إلى أنظمة استبدادية جديدة مهما كانت تضحياتها، لقد حدثت القطيعة، ومن الصعب العودة إلى الوراء. تصدّر حزب إسلامي التوجّه في أوّل اختبار انتخابي عاشه بلد عربي بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، وأعني هنا تونس. فهل يشكل هذا خطرا على التحول الديمقراطي المنشود؟ نادر فرجاني: هناك مخاطر من الإسلام السياسي المتشدد، ولا أضع من ضمنه حزب حركة النهضة التونسية. لحسن الحظ النهضة من أكثر تيارات الإسلام السياسي استنارة في المنطقة العربية، وهذا بالمقارنة مع تيارات الإسلام السياسي في مصر التي من المرجّح أن تحقق أغلبية في المجلس التشريعي المرتقب. من هنا أعتقد أن تونس ستكون في مقدمة البلدان العربية المؤهلة إلى إنجاز حكم ديمقراطي سليم، خاصة إذا ما نجحت النهضة في الإتفاق مع بعض الأحزاب العلمانية التونسية في تشكيل حكومة ائتلاف وطني للمرحلة القادمة. هذا سيكون مثالا جيّدا لكي يقتدى به في بلدان عربية أخرى. سلوي زرهوني: الإسلاميون لا يشكلون خطرا على الديمقراطية، ولا يجب أن نسقط في إعادة انتاج خطاب استشراقي دغمائي. أنظر إلى الإسلاميين في تركيا الذين هم في الحكم الآن، والذين يحققون نجاحات مهمة على مستويات عدة. في أندونيسيا كذلك، هناك أحزاب إسلامية تشارك في المنافسة السياسية ويحتكمون إلى نتائج صناديق الاقتراع. ليس بإمكاني كخبيرة في العلوم السياسية أن أركن بعد الذي حدث إلى فزّاعة استخدمها الإتحاد الأوروبي، والإدارات الأمريكية المتعاقبة لتبرير ودعم أنظمة حكم مستبدة. أنا لست مقتنعة بالمرة بوجود ما يسمى "الخطر الإسلامي" أو "الخطر الأخضر". المهم بالنسبة لي أن يكون الإطار الذي تجري فيه العملية السياسية إطارا ديمقراطيا لإجبار كل الأطراف بغض النظر عن مرجعتيها الإيديولوجية على الاحتكام إلى قواعد العملية الديمقراطية. من هذا المنظور، أعتقد أن إقرار دستور ديمقراطي أمر جوهري لإنجاح هذا المسار الديمقراطي. إذا نجحت تونس خلال هذه السنة في إقرار دستور ديمقراطي فلا يهم ما هي الأطراف التي شاركت فيه. للأسف، العملية ليست بهذه الجدية وبهذه الشفافية والمصداقية في كل من المغرب والأردن واللذيْن تمت فيهما مراجعة الدستور.