مباشرة إثر سقوط الاتحاد السوفييتي، واستقلال أرمينياوأذربيجان، استغل الأرمن تلك التطوّرات المتسارعة في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، وقاموا في أواسط عام 1992 بالسيطرة على إقليم ناغورني كاراباخ، الذي يقع داخل حدود أذربيجان وأغلبية سكانه من الأرمن. وضموا أيضا أراضي 6 مقاطعات أخرى في تلك المنطقة. ومنذ اتفاق وقف إطلاق النار في مايو 1994 لم يتم التوصل إلى سلام دائم بين البلدين. ولم تتوقف الاشتباكات بين الطرفين. والمناوشات تتم في كل مرة في منطقة كاراباخ المتنازع عليها وسط اتهامات متبادلة بتحميل المسؤولية. نزاع له امتدادات محلية واقليمية ودولية، يريفان بحاجة إلى روسيا، وموسكو تدرك هذا جيدا، وهي مجال نفوذ جغرافي يسمح لروسيا بالمناورة الجيوسياسية. وتعد أرمينيا حليفا اقتصاديا واستراتيجيا مهمّا، بالإضافة إلى التواجد العسكري الروسي عبر القاعدة العسكرية في يريفان. وبالمثل تدعم إيرانأرمينيا لأسباب اقتصادية مرتبطة بالطاقة، ولحساسية الأقلية الأذرية في الداخل الإيراني، التي تطالب بمزيد من الحقوق، وبالتالي إضعاف باكو حاجة إيرانية ملحة، وطهران تعلم أيضا أن تل أبيب تولي اهتماما خاصا بأذربيجان، ولها علاقات وطيدة معها لقربها من إيران، وعبر دعمها المعلن لباكو، تتحدّى تركيا مرة أخرى روسيا، مع استمرار التوتر بين موسكووأنقرة في الجغرافيا السورية والليبية. وإصرار أردوغان على تطوير علاقات بلاده العسكرية مع أوكرانيا، وعدم اعترافه بقرار ضم منطقة القرم إلى روسيا الاتحادية، وهو يدعم شبه الجزيرة، وفي ذهنه أن سكانها من أصول تركية. ومن الممكن أن تدخل العلاقة بين روسياوتركيا في دوامة التوتر مجددا، في وقت يستمر فيه القتال الأكثر دموية منذ سنوات بين الجمهوريتين التابعتين للاتحاد السوفييتي سابقا. هذا التصعيد الدراماتيكي يأتي في ظل شراكة هشة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، بفعل تصادم المصالح على الأرض في سوريا وليبيا، وإقليم كاراباخ يشكّل هو الآخر بؤرة صراع على ممر الطاقة الاستراتيجي، حيث تصرّ أنقرة على دعم باكو، وتعهدت قيادتها السياسية بالوقوف إلى جانبها، ومنحها الأسلحة الحديثة، وإن قُدِّم الدعم التركي تحت عناوين تاريخية ودينية وعرقية، فإنّ السبب يبقى اقتصاديا في جوهره، متمثلا في الغاز الطبيعي الرخيص الذي يأتيها من أذربيجان، مقابل الغاز الروسي باهظ الثمن. ومن الجيد أن تحافظ روسيا على لعب دور الوسيط لإنجاح عملية وقف إطلاق النار، لأن الصراع بين أرمينياوأذربيجان، يحدث ضمن منطقة نفوذ روسية. ومحاولة تركيا إقحام نفسها في الحرب الدائرة، يمكن أن يكون له رد فعل عكسي، أقلّه تواجد عسكري روسي على الأرض لنشر قوات حفظ سلام، وعودة أرمينيا إلى أحضان الكرملين، بعد أن نأت بنفسها عن موسكو نسبيا منذ الثورة الشعبية عام 2018. كل هذه الأحداث هي جزء من خطة واحدة تهدف إلى زعزعة الاستقرار في منطقة القوقاز، وهم يقتربون من الحدود الروسية، ومن المتوقع وقوع أحداث مماثلة في داغستان وتتارستان، وفي أوسيتيا الشمالية ومنطقة حوض نهر فولغا، وفي المناطق الأخرى من شمال القوقاز وجنوبه. استكمالا للتوتر الذي حدث سابقا في جورجيا، وفي أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، وبالنظر إلى المناورات العسكرية الأمريكية المتواصلة، ووضع منظومات صاروخية في أكثر دول أوروبا الشرقية تشدّدا وهي بولندا، ضمن طموحات أمريكا الجيوستراتيجية في محاصرة روسيا عبر أقرب جيرانها الأوروبيين. حلقة أخرى من نزاع القوقاز طويل الأمد، الذي خاضت خلاله روسيا حربين ضد حركات انفصالية ومتشدّدين، منذ انهيار اتحاد الجمهوريات السوفييتية، ناهيك من استعادتها القرم، والصدام العسكري الجزئي مع جورجيا ثم أوكرانيا. وقبل أن تخرج الأمور عن السيطرة، تتّجه الأنظار إلى تسوية سياسية ما، وإمكانية حل الأزمة بطرق دبلوماسية، أو بتدخل قوات دولية لا يمكن أن تستثنى منها موسكو. مع مراعاة خصوصية كل طرف وعلاقاته الاستراتيجية، وقد يرى البعض في المواجهة العسكرية بين الجارتين محاولة لتضليل العقل الجيوسياسي التركي. على اعتبار أن روسيا منزعجة من التقارب التركي الأمريكي في الملف الليبي، وعلى ضوء ذلك تزعج أنقرة في منطقة البلقان وآسيا الوسطى، ولكن رغم هذا، فهي فرصة ثمينة لأنقرة، قلّصت من خلالها توتر علاقاتها مع موسكو في الشرق الأوسط وشمال افريقيا، ونقلتها إلى منطقة القوقاز ذات الأهمية الاستراتيجية. علاوة على أن تحمس تركيا لمعاضدة أذربيجان تغذيه خصومة الأتراك التاريخية مع الأرمن، ولذلك تأتي مطالبة أردوغان لأرمينيا بالانسحاب من المناطق التي سيطرت عليها، في إشارة إلى المساحات التي فقدتها أذربيجان سنة 1994، مع دخول مفاوضات وقف إطلاق النار، التي أوكلت لمجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا بإشراف روسياوأمريكا وفرنسا. النزاع يحمل في طياته مصالح جيوستراتيجية مهمة لموسكووأنقرة، والمشكلة هناك، تتجاوز خرق الهدنة، ومن المسؤول عن انتهاك وقف إطلاق النار. وإن كانت جهود روسيا تؤكّد على مرجعية مسار التفاوض وشكله، فإنّ الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف يصرّ هذه المرة على اشراك تركيا في مسار التفاهمات. ويعتقد أن دول مجموعة مينسك بعيدة عن المنطقة. ولم يؤت تدخلها أي ثمرة منذ 30 عاما، ولم يتم تسليم باكو سنتمترا واحدا من أرض أذربيجان عن طريق التفاوض. وهو متغيّر تاريخي مهم، يُترجَم من خلال الحراك الدبلوماسي المتسارع، الذي يبدو أنّه يتم مع تركيا هذه المرة وليس مع باكو. وقد تكون النتائج مختلفة في إطار صفقة ثنائية بين موسكووأنقرة، خاصة أن الحكومة الأذرية على قناعة تامة بضرورة تغيير المعطيات على أرض الواقع. وبالمحصلة ، لا يمكن لما يجري أن يكون خارج الاتفاقيات الأمنية والصفقات الجيوسياسية بين محاور النزاع في أكثر من ملف إقليمي، في سوريا وليبيا وشرق المتوسط وافريقيا. القدس العربي