أحس بخيط من الدخان يتسرب من الأسفل إلى المكان المظلم الذي يحتوي جسده الذي بات يرتعش تحت لحاف غدا عليه بثقل جبل ، تمتم السيد / ميم / بكلمات وكأنها الأخيرة التي يتمتمها لنفسه : هاهو الدخان الأسود يزحف إليك , يتحلق كحبل مشنقة حول رقبتك وأنت لا تستطيع فكاكا منه , تعجز من إبداء أي حركة في مواجهته ، أمام هذا التوبيخ الداخلي الذي وجهته نفسه إليه أراد أن يبدي حركة ولو صغيرة علها تشجعه للنهوض والتقدم نحو الباب لفتحه , بيد أنه فشل في أي محاولة للتحرك فعادت نفسه تخاطبه بذات النبرة : إنك ميت، فقط الميت هو الذي لا يقدر على حمل جسده ، هاهو الذي ظللت طوال عمرك تتهرب منه يقتحمك ويحيلك إلى كائن عديم الحراك , وبعد قليل يحيل جسدك إلى جثة متفسخة وكأنك لم تكن , كأنك لم تعش ، كم من الأصدقاء لديك , كم من الشوارع التي تمضي فيها , كم من الطقوس اليومية التي تقوم بها , سيغدو كل ذلك إلى صورة من الماضي الذي لا يعود , لقد فقدت كل شيء , فقدت حياتك كلها ، لم تكن تصدق أن الموت حقيقة يواجهها الإنسان , لم يكن أي موت بوسعه أن يقنعك بموت الإنسان موتا كليا واختفاءه من الحياة الحافلة التي يعيشها ، إنهم يذهبون إلى أماكن أخرى يعيشون الحياة بكل دفقاتها , هذه الحياة التي لا تنطفئ في الإنسان أينما حل ، اكتظت الحجرة بالدخان ورأى في لحظات أن الاختفاء الحقيقي هو جموده في الفراش مستسلما للدخان وبالكاد خرجت من فيه عبارة متلعثمة : / لكنني لست ميتا / ، عندما تناهى إليه صوته وأحس بأن الصوت اخترق الظلام والدخان معا تأكد بأنه ليس ميتا , فأطلق قهقهات مجلجلة لا متناهية أحس على إثرها بقوة هائلة تجتاحه , نهض من الفراش يواجه الدخان والظلام ومد يده إلى زر الضوء فامتلأت الغرفة نورا , رأى الظلام والدخان يتعانقان ويخرجان بجبن من تحت الباب ،واصل قهقهاته المجلجلة التي ملأت نفسه بنشوة الحياة من جديد , ثم ارتدى ثياب الخروج وفتح الباب , رأى الجيران يتحلقون حول بابه يحدجونه بنظرات غريبة , أدرك للتو بأن قهقهاته المجلجلة تلك هي التي أخرجتهم من بيوتهم , ألقى نظرة سريعة إلى ساعته رآها تشير إلى الواحدة ليلا , في تلك اللحظات أحس برغبة جامحة في أن يمضي في الطرقات تحت قناديل الليل , أقفل الباب خلفه ومضى يهبط الدرج غير آبه بالنظرات التي تركها خلفه .