إنهم المعذبون فوق ارض الجزائر لا يملكون شيئا...لا عمل، لا علم، لا سقف، لا مستقبل...يأتون من كل فج عميق يلهثون وراء" الخبزة المرة"...إنهم "الزوافرا" أو عبيد هذا القرن يراهم، صباح مساء وفي كل الأوقات، من يدخل بلدية الشراقة غرب العاصمة، معظمهم شباب..هناك استثناءات..ضاقت بهم الدنيا في مداشرهم وقراهم الفقيرة فقرروا الحرقة إلى العاصمة وما أدراك ما العاصمة، كابوس، استغلال، شقاء. "أنا حمال مختص في تفريغ وتحميل الشاحنات من الرمل أو بالرمل...احمل في الحقيقة أي شيئ وكل شيئ مادام هناك مقابل ..جئت من منطقة تيارت والدي رجل طاعن في السن لا دخل له يعيش بقدرة الله وعطف المحسنين" يضيف موضحا "لدي سبعة إخوة أكبرهم لا يتجاوز 35 سنة لم أجد عمل في تيارت فنصحني بعض الأصدقاء بالتوجه إلى العاصمة وبالتحديد إلى (الشراقة) للعمل كحمال". هواري 20 سنة هو صاحب هذه الكلمات، من يراه لأول مرة يعتقد جازما انه أمام متسول لشدة فقر الشاب، ثياب بالية مهلهلة لا تسمن ولا تغن من برد، شعره الأسود لم يعرف لا الحلاق ولا الصابون لمدة طويلة ولكنه قبل الحديث عن حياته كانت البسمة لا تفارق شفتاه، "واه واه الحياة صعبة يقول هواري بلهجة غرب البلاد وبلحن عذب معترفا أن دخله اليومي لا يتجاوز في أحسن الحالات 200 دج في اليوم "المشكلة تكون عندما لا يكون هناك عمل "فالزوافرا" كثر والزبائن قلة يضيف هواري الذي يبيت في العراء صيفا وشتاءا. العمل يبدأ حسب هذا" الشاب الشيخ" في الليل "والشاطر يشطر"لأن شاحنات التفريغ والتحميل المهمة تأتي إلى هذا المكان بداية من الساعة الثامنة ليلا مثلما حددت لها الحكومة أوقات السير في الطرقات، يحدث أن يكون العمل مهما صحيح انه شاق لكنه يغطي نفقات شهر من الأكل والشرب يقول محمد متدخلا عيناه كحيلتين بأهداب طويلة وشعر فاحم متجعد مثل وجهه الذي بدا وكأنه لعجوز أمحته الدنيا بسمة الحياة.جاء محمد من الجلفة عمره لا يتجاوز ال 15 سنة رفض الحديث إلينا ليس من خوف القانون بل من الحياء ومع ذلك تمتم يقول "ماذا تريدون أن أقول لكم هربت من "الميزيرية" البلاد أي الجلفة"واسترسل مضحكا ليغطي لحظة تعاسته يجري وراء سيارة من نوع اكسبريس جاءت إلى هذا المكان" لعله يصور 100 دج لتفريغ خمسة أو ست أكياس من الاسمنت"يقول هواري الذي ركن إلى جدار مفضلا الانتظار أكثر حتى وان استغرق الوقت إلى السابعة صباحا. عبد القادر شاب في ال 18 سنة وجدناه يركض وراء سيارة من نوع مرسيدس يستعطف سائقها ليختاره بدل "الزوافرا" الآخرين لتفريغ شاحنة من أكياس الاسمنت "الله غالب ، اختار غيري يقول عبد القادر القادم من شرق البلاد وبالتحديد من منطقة برج بوعريريج". "المهم هو تصوير قوت يومي لأن الحمال الجائع لا يقوى على العمل طويلا وأنت ممنوع من المرض" فالزوافرا" لا يجوز لهم أن يمرضوا لأن ذلك يعني بكل بساطة فقدان فرصة عمل قد لا تتكرر"يقول عبد القادر الذي ذكرني بالمثل "البقاء للأقوى" "لقد تركت المدرسة في الأطوار الأولى بعد أن تأكد أن الفقر والعلم خطين متوازيين لا يلتقيان أبدا "المال قليل والعائلة كبيرة فلم أجد من وسيلة أخرى لتأمين الخبز سوى مغادرة "القربي " العائلي لأعتمد على نفسي وكذلك لتخفيف العبء على العائلة فجئت إلى الشراقة للعمل كحمال" ويضيف عبد القادر بعد لحظات من التفكير في صمت وخشوع"حمال خير من لا شيئ" يصمت مرة أخرى ...ثم يستأنف الحديث "أصعب شيئ في عمل الحمال هو لحظة غروب الشمس، عندها أتذكر دفء العائلة ...قهوة أمي ونكهة خبز الطاجين تحميل وتفريغ الشاحنات مقدور عليه، هذا هو مكتوبي ولكن لحظة غروب الشمس عندما تشاهد الناس يسرعون للدخول إلى بيوتهم وأنت لا بيت لك...هذه أصعب لحظة في حياة الحمال الزوفري "لقد اعتصمت طويلا بحبل الصبر ولم أقوى على احتمال سوء الظروف المعيشية في دواري الذي جئت منه لا عمل ولا هم يحزنون " لكن ما يؤلم سيد احمد صاحب الأربعون عاما هو "جبروت وظلم أرباب العمل في هذا المنعرج الذي لا يبعد عن إقامة الدولة نادي الصنوبر بخمس كيلومترات فقط ويروي سيد احمد انه رأي يوما صاحب محل لمواد البناء بالشراقة يقول كلام بذيء لأحد أصدقائه من الحمالين لا لشيئ إلا لأنه اسقط كيسا للاسمنت من يده.. وهي الصورة التي تذكر هذا الرجل غير المتزوج بأيام العبيد في أمريكا الجنوبية سألناه لماذا لم يتزوج بعد رد قائلا "ألا تعلمين سيدتي انه لا يجوز للعبد ان يتزوج؟ فليس من قانون العبيد ما ينص على الزواج في بلادنا.. مضيفا وفي مخيلته أن الصحافة المنفذ الوحيد لحل مشكلة بؤسه لما الزواج؟ هل من اجل إنتاج بؤساء آخرين لا ذنب لهم ولا قوة لأن يصبحوا بحكم الوراثة الاجتماعية حمالون في المستقبل سليم "زوفري" ثالث جاء من منطقة سيدي بلعباس ناقم على الدنيا ومن فيها وبما فيها "الحمال ليس عمل بل حقرة يومية واستغلال ما بعده استغلال بحثت عن عمل محترم (الاحترام هنا يعني بالنسبة لسليم ديمومة العمل والضمان الاجتماعي ولكنني لم انجح يبدو ان ابناء العاصمة اكثر حظا منا فنحن غرباء وبرانية يقول الشاب سليم الذي يريد ان يقتني حذاء رياضي من نوع "اديداس ونظارات من نوع ريبان ولكن العين بصيرة واليد قصيرة" ارفض ان اركن للواقع وان استسلم للمصير..والظاهر ان سليم قد استسلم الى هذا الواقع بدليل ان حذاءه بدا وكانه لجندي من الحرب العالمية الأولى بعينان اهدابها اكلها غبار الاسمنت والرمل والغبار لا تقوى على تحمل نظارات الريبان انهم بؤساء فيكتور هيجو الذي يصف نوع من انواع الجحيم البشرى في المجتمع الفرنسي صورة باتت تنطبق على "زوافرا" الشراقة فشرح مصطلح زوفري ذو الأصل الفرنسي يفوق كل شروحات قواميس العالم حتى وان لم يجد بعد الفرنسيون تعبير يشرحون به هذه الكلمة فهم " ناس يعيشون في بؤس"; و هو يعني أيضا" ناس يعيشون خارج المجتمع و في فقر مدقع" ذلك ما لمسناه في هذه البقعة من الجزائر وهو السبب أيضا الذي دفعنا إلى جراء هذا الريبورتاج ليس لمحو مهنة الحمال وسط أرقام جمال ولد عباس وزير التضامن الوطني التي تقول آن نسبة البطالة بالجزائر هي 15 في المائة بل لأن ننقل معاناة شريحة من المجمع نراها صبا مساءا ولكن لم نطرح أبدا سؤال كيف يعيش هؤلاء ومن أي فج قدموا شاعر لكنه.. حمال "كل كوم وحالة سمير كوم آخر يقول سليم انظروا إليه هاهو ذلك الشاب الذي يحمل الجريدة انه شاب في العشرون من العمر يشبه الى حد بعيد الممثل الأمريكي الشهير سلفستر ستالون المعروف أكثر برامبو. يدرس الاقتصاد في الجامعة ويهوى الى حد الهوس الشعر فهو ليس كل ما يتمناه المرء يدركه تجري الرياح بما تشتهيه السفن هو ايضا من ممارسي رياضة التايكوندو ذي الأصول الآسياوية...ولكن سمير حمال وجدناه يتصبب عرقا بعد ان حمل بمفرده 25 كيسا (كل كيس يزن 25 كلغ) داخل شاحنة مقابل 400 دج "ليس بالامكان احسن مما كان، انا فعلا فقير وانا فعلا مضطر لجلب المال لانفاقه على العائلة، والدي متقاعد امي مريضة وست بنات لم تتزوجن بعد" يقول سمير الشاب الذي ان ولد في هوليود لكان له شأن آخر ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن او على الأقل هكذا يقول المتنبي يردد سليم تاركنا وراءه يجري وراء شاحنة يفوق طولها الخمس امتار تبدو حسب حركة هؤلاء الزوافرا مهمة من حيث الحمولة ومن حيث مدخول اليوم المهم حسب هؤلاء أن" يكون الحمال راكضا ماهرا مثل مورسلي " لأنه يحدث أن يبقى زوافرا الشراقة في بطالة مؤقتة لأيام طويلة خاصة في فصل الشتاء حيث تتوقف ورشات البناء عن العمل. تراهم يلتصقون في مؤخرة هذه الشاحنة وكأنها قطع حديدية تلتصق بعيار مغناطيسي متحرك كل واحد منهم يسعى لأن يكون الأسرع والأدهى لربح اكبر والعودة في اسرع وقت ممكن الى الدوار "بالكموسة" لعلها تكفي حاجيات العائلة في انتظار ملء الكموسة المقبلة. يعود سليم من صيده فرحا مبتسما فخورا يقول "انأ حمال هاوي لست محترفا كبقية الزوافرا هنا في الشراقة بنيتي الجسدية هي نقطة قوتي حيث يفضل الزبائن توظيفي بدل غيري لأنني اعمل بسرعة واعمل بمفردي حتى لا اتقاسم الأجرة..انا لست حمال عادي بل انا حمال مثقف أتألم كثيرا عندما اقرأ ان الجزائر بلد غني وان الجزائريين فقراء" بدا هذا الشاب الذي ترتسم على وجهه الجميل كل تعابير الحزن والغبطة أنه لا يكترث كثيرا بما يجري من حوله العمل كحمال بالنسبة له عمل كأي عمل آخر لأنه ببساطة يطمح لأن يكون في يوم من الأيام اطارا في الدولة يحسب له في يوم من اليام ألف حساب المهم ان يكون ذلك من عرق الجبي. كان سمير يحمل بالصدفة جريدة وطنية مكتوب في صفحتها الأولى"احتياطي الصرف بلغ 90 مليار دولار" يشير الى الجريدة والموضوع في صفحته الثالثة يغلقها ثم يعلق "كلام رجال السياسة يظل كلام في كلام لهم حياتهم ولنا حياتنا اهتماماتهم ليس كاهتماماتنا فهم لهم دينهم ونحن لدينا ديننا ..هم يعيشون في نادي الصنوبر ونحن نعيش في القصدير "يقول سمير بكثير من الحسرة والألم. ويظل حلم سمير الأول والأخير هو "الهربة"إلى ما وراء البحر لتأمين مستقبل كريم له ولكل العائلة وخاصة البنات الستة "ولكنني ضد مشروع"الحراقة" لن نسبة النجاح فيه ضعيفة جدا بل تكاد تكون منعدمة فهذا في واقع الأمر انتحارا وليس حلا والانتحار في ديننا حرام" وعندما تحدثه عن الزوافرا من حوله يقول لك بكثير من الجدية"انا فقير ولكنني لست اقل فقرا من هؤلاء...فهم فعلا في اسفل السافلين ..فهم فعلا عبيد هذا القرن الرديء).