في عام 1919، وقد خسرت ألمانيا في الحرب الأولى، ألقى المفكر والسوسيولوجي الألماني المعروف ماكس فيبر (1864 – 1920) بجامعة ميونيخ محاضرتين، بعنوان: العلم باعتباره حرفة، والسياسة باعتبارها حرفة. وكان همه في المحاضرة الأولى تحديث العلم والتعليم بالجامعات الألمانية. أما في المحاضرة الثانية فكان اهتمامه منصبّاً على دراسة أسباب هشاشة الأحزاب السياسية في ألمانيا، وآليات علائقها بإدارة الدولة. وفي كلتا الحالتين أو المسألتين، كان فيبر يرى ضرورة تقليد التجربة الأميركية في التعليم والبحث العلمي، كما في العمل السياسي. وكانت وجهة نظره، أنه وبخلاف الوضع في الولاياتالمتحدة؛ فإنّ الأحزاب السياسية (الحديثة) بألمانيا تنشئها ثلاث فئات: رجال الأعمال، والآيديولوجيون، وأهل المِهَن الحرة الأخرى وفي طليعتهم المحامون. وفي سائر هذه الحالات لا يساعد ذلك على ظهور السياسي المحترف؛ وبخاصة أنّ رجالات الأحزاب ومن دون أن يشعروا يصبحون تابعين لبيروقراطية الدولة القوية، أما الآيديولوجيون فإنهم يتحولون بالتدريج إلى انشقاق أو انشقاقات. وبسبب «الغربة» عن المجتمع العام أو الجمهور العام؛ فإنّ الأحزاب خارج السلطة سُرعان ما تتهمش، أما الآيديولوجيون فسُرعان ما يفقدون صبرهم فيتشرذمون من جهة، ويصطدمون بالسلطات العليا أو بالجيش. وفي كل الأحوال تتهدد وحدة البلاد، وباسم مكافحة الفوضى تلجأ السلطات العليا لاستخدام الجيش، وبتأييدٍ من الشعب، لأن الوضع ينقلب من الخوف من الدولة إلى الخوف عليها! وفيبر يرى المخرج في التربية السياسية الطويلة الأمد، والتي تتيحها الأحزاب السياسية أو الحزبان الكبيران في الولاياتالمتحدة. ويظلُّ الفارقُ قائماً بين بيروقراطية الدولة، وبيروقراطية الأحزاب، لأنها بيروقراطيات تتجدد ولا تجمد من خلال الانتخابات المتوالية على عدة مستويات، والتي يتيحها النظام الفيدرالي في الدولة الأميركية. تحدث فيبر عن أهمية القيادة الكاريزمية للحزب، والقائد الذي تحيطه مجموعة متوسعة ومتجددة من المحترفين. وعندما أراد الحديث عن الظواهر السلبية، ذكر الآيديولوجيين الذين يريدون تغيير الواقع بطرائق ثورية. وكان في ذهنه الجماعات الشيوعية التي تتهدد سلطة الدولة وقد كان الاتحاد السوفياتي في طور الظهور في روسيا بعد ثورة عام 1917. وله في ألمانيا أنصار كثر. وتوفي فيبر عام 1920. عندما كانت بقايا الجيش الألماني تضرب الكومونات الماركسية التي قامت هنا وهناك ومنها واحدة في مدينة ميونيخ. إنما بعد وفاته بقليل، في عام 1924. بدأ ظهور شعبوية صغيرة يتزعمها قائد كاريزمي، وليس بين المتحزبين له أي سياسي محترفٍ على نمط فيبر المرغوب، والقائد هو أدولف هتلر النمساوي الأصل، والذي صار حزبه النازي شعبوية كبرى اكتسحت الانتخابات في عام 1933. فكانت آخر انتخابات بألمانيا حتى عام 1947 بعد الهزيمة في الحرب الثانية، والتي جلبها الFührer على ألمانيا وكلفت عشرات الملايين من القتلى والخراب المهول في سائر أنحاء القارة بل القارات! بعد الحرب العالمية الثانية ما عرفت الولاياتالمتحدة، ولا الغرب الأوروبي ظاهرة الشعبويات اليسارية أو اليمينية. وبدا أنّ ذلك يعود للتربية السياسية الأميركية التي أنتجتها الجيوش الأميركية والإدارات التي أنشأوها فيما بين أوروبا واليابان. وحتى الزعماء الناجحون بعد الحرب مثل أديناور وتشرشل وديغول، ما غرتهم كاريزماهم للانصراف عن الانتخابات وعن حكم القانون، وصاروا سياسيين محترفين وخرجوا من السلطة بخسارة الانتخابات أو بالصراع على السلطة بداخل أحزابهم! لكنّ الشعبويات العقائدية والانشقاقية (وهذه المرة من اليمين) عادت للظهور في السبعينات من القرن الماضي، وفي أوروبا بسبب كراهية الأحزاب الكبيرة والبيروقراطية والهجرة، وفي أميركا بسبب ظواهر عودة الدين والإنجيليات الجديدة. ووجدت «الأكثرية الأخلاقية» التي قادها القس جيري فالويل ضالتها في الشخصية الكاريزمية للممثل السابق رونالد ريغان – وما كان الرجل ملوَّعاً ولا مُولعاً بالاحتراف السياسي، ولا بتدقيقات القانون والدستور. ثم إنه ما حصّل شعبيته بمكافحة الإجهاض والمثليين والهجرة؛ بل بمصارعة الاتحاد السوفياتي الُمجهد. ثم إنّ الحزب الجمهوري الذي فاز على لوائحه وعلى وقع هجمة الإنجيليين، أحاطه طوال فترتيه بمجموعة واسعة من المحترفين السياسيين الذين تربوا في الحزب وفي إدارات الدولة المحلية والفيدرالية. وفي حين انصرف المفكرون والاستراتيجيون لدراسة آثار عودة الدين على العلاقات مع الدولة العلمانية؛ تحطمت أكثرية فالويل الأخلاقية، وفاز الديمقراطي كلينتون على جورج بوش الأب؛ فكان الديمقراطيون هم الذين انصرفوا إلى جني ثمرات سقوط الاتحاد السوفياتي، ثم انشغل الأميركيون جميعاً وشغلوا معهم العالم بمكافحة الإرهاب الإسلاموي! لقد نال أوروبا أيضاً شواظ الإرهاب والاندفاع لمكافحته بالداخل. لكنّ الشعبويات ما خمدت ولا تراجعت، وإن لم تجد قادة كارزميين كباراً. وقد طَامَنَ من اندفاعاتها قوة الاتحاد الأوروبي الذي سيطرت على دوله الكبرى التيارات السياسية الوسطية، وحاجة الدول الوسطى والصغيرة التي تصاعدت فيها الشعبويات وسيطرت فيها على عدة حكومات – إلى مساعدة ودعم الكبار ذوي الاقتصادات الأكثر صلابة وأريحية. وكما فاجأت أميركا العالم بانتخاب أوباما الأسود للرئاسة، وهو خريج هارفارد، والمتمتع بأفضل خصال «البيض»؛ عادت ففاجأت الجميع باندفاعة شعبوية هي خليط من الإنجيليات وحساسيات «البيض» المهمشين بالمدن الصغيرة، وخوفهم من الملونين الذين يكادون يصبحون أكثرية في الولاياتالمتحدة. لقد وجد هؤلاء جميعاً ضالتهم من جديد في رجل هو أبعد ما يكون عن «الاحتراف» والتجربة السياسية. وما كان دونالد ترمب خفيفاً ولا ظريفاً على قلوب بيروقراطيي ومحترفي الحزب الجمهوري، لكنّ جمهور الحزب قهرهم، وتعزّوا بأنهم بذلك يجددون أو يكررون تجربتهم مع ريغان. ما هو مستقبل النظم الديمقراطية الغربية التي عرفها العالم وقلّدها واقتدى بها، وقد تحولت هي بدورها ميزاناً وحسيباً ورقيباً على العالم في نظام العيش، وفي الديمقراطية والحريات الأساسية وحقوق الإنسان؟ ما عاد يمكن القول إنّ الشعبويات هي ظاهرة عابرة، فهي قوية ليس في أوروبا وأميركا فقط؛ بل وفي روسيا والهند وأنحاء أُخرى من العالم في آسيا وأفريقيا. فالكل يبحث عن الهوية والخصوصية، وعما يعتبره «مصالح وطنية». وقبل أيام قال رئيس منظمة الصحة العالمية إننا على شفا فضيحة أخلاقية عالمية، فحتى اللقاحات ضد الوباء صار توزيعها مصلحة قومية أو وطنية! تبعاً لنظرية ماكس فيبر في الاحتراف السياسي الأميركي، نجح الديمقراطي جو بايدن. ومن جهة ثانية ينتهي في سبتمبر (أيلول) 2021 العهد الميمون للمحترفة وصاحبة التجربة السياسية الناجحة بألمانيا المستشارة ميركل. فإلى أين يتجه العالم والعالم الغربي على وجه الخصوص الذي يُحاصَر بين الديكتاتوريات والشعبويات؟!. الشرق الأوسط