تسوق الصين برنامجاَ من 5 مبادئ مثالية للعالم، خاصة بين الدول النامية. وفقا لهذه المبادئ فإن الصين تبحث عن إدارة جديدة للعالم، تقوم فيه الدول النامية بدور مهم في الحفاظ على السلام والأمن العالمي، حتى لا تصبح الكرة الأرضية ساحة للاعب واحد قوي مسيطر على مقدراتها. وعندما تحدث أزمات دولية كبرى، ترفع الصين الشعارات في وجه المتحدثين، ومنها ضرورة أن تكون العلاقات الدولية قائمة على العدل والإنصاف وحسن الجوار والمستقبل المشترك. وعندما قامت الثورات العربية، وقفت الصين عند مفترق الطرق، فهي من ناحية لا تستطيع أن تسير عكس تيار موجات المد الثوري، التي أطاحت بالأنظمة العتيقة، التي كانت تحمي مصالحها، وفي الوقت نفسه لا يمكن أن تصطف مع الثائرين والأنظمة التي تمثلها، لهذا كان موقفها متضاربا، فعندما تتحدث عما يجري في مصر من مظاهرات، تعلن على لسان مسؤوليها، أن الشعوب حرة في اختياراتها، وتدعو الدول الأخرى إلى عدم التدخل في شؤون هذه الدول، طالما أن النظام الجديد، لا يتعارض مع مصالحها. وحينما تريد حماية نظام قائم والشعب ثائر عليه، ترفع «الفيتو» في الأممالمتحدة وتطالب بالحفاظ على ذاك النظام، وتعتبر أن الجماهير الرافضة لوجوده، مغرر بها أو واقعة تحت تأثير الإعلام والدعم الغربي. ظهرت الصين متأرجحة في مواقفها على مدى السنوات الخمس الأولي للربيع العربي، ففي القاهرة، فتحت قنوات اتصال مع الإخوان المسلمين والسلفيين والأحزاب اليسارية مثل، التجمع والكرامة والشيوعي المصري والأحزاب الليبرالية مثل الوفد، والمصري الديمقراطي، في الوقت نفسه دعمت بشدة المجلس العسكري. وحاولت فتح قنوات اتصال مع الأجهزة العسكرية والأمنية، وهي ما كانت تفتقده بشدة، إلى أن عرفت سبلها عبر بوابات المشروعات الاقتصادية، وسمحت لأول مرة لبنوكها بأن تقدم لمصر بالمليارات ودائع بلا فوائد، وقروضا عاجلة، ومنحا مالية لا ترد. وفي سوريا عارضت الثورة الشعبية ضد نظام الأسد، واعتبرت ذلك خروجا على الدولة، وحرصت على حماية بشارالأسد بالوسائل الدبلوماسية في الأممالمتحدة ومجلس الأمن، وساندته بكل الطرق المادية. وبينما قطعت الأنظمة العربية علاقاتها بنظام الأسد، بقرار من الجامعة العربية، أرسلت الصين السفراء من أصدقائنا الذين عملوا من قبل في مصر ومنهم السفراء تشي تشيان جي وفونغ فياو ووان كيه جيان الذي انتقل إلى لبنان لمدة طويلة. ولم تكن الصين تهاجم ما يحدث في اليمن، والمغرب، بينما تلمح إلى خطورة الثورات على مقدرات الشعوب. مع زيادة الفوران السياسي دعت إلى عدة مؤتمرات دولية تحت رعاية وزارة الخارجية والحزب الشيوعي الصيني والجامعة العربية، وغيرها من التنظيمات السياسية التي ترتبط الصين عبرها بالعالم العربي والافريقي، والدول النامية في محاولة لفهم ثم لكبح جماح هذه الثورات. وظفت الصين أذرعها السياسية الجديدة التي جاءت عبر الجامعات وأجهزة الإعلام، بعقد مؤتمرين كبيرين في جامعة بكين عامي 2012 و2013 لدراسة الربيع العربي. في العام الأول الذي شاركت فيه ببحث عن أزمة الهوية في بلدان الربيع العربي، كان الصينيون يطلقون على ما يحدث بأنه «انتفاضة» وفي العام التالي وجدت تغييرا في الألفاظ، حيث قالوا لا يمكن لنا أن نسمي هذه ب»ثورات أو انتفاضات» ولكنها «هبات» في الدول العربية. كانت التسميات تتغير وفق الحالة التي أصبحت علاقتها بتلك الدول. ففي المؤتمر الأول وجدت حضورا كثيفا من قادة العالم، وعلى رأسهم توني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، ووزراء وقادة من الحزب الشيوعي، الذي يدير كل المؤسسات العملية والرسمية في الدولة. وظهر جليا رغبتهم في دراسة الثورات عن كثب عبر دعوتي وغيري من الحضور إلى الجامعات الأخرى ومعاهد سياسية، أنشئت حديثا تابعة لمجلس الدولة الصيني (مجلس الوزراء) التي تبين أن كثيرا منها ما هي إلا واجهة للمخابرات الصينية العتيقة. وفي العام التالي تبدل الحال تدريجيا عندما ناقشنا مستقبل هذه الثورات. وفرح المسؤولون بالعرض الذي قدمته في 2012، متوقعا بأن تستمر أزمات الثورات العربية لفقدانها لمشروع الهوية السياسية، فلا هي إسلامية ولا مدنية، بالإضافة إلى عدم التفاف الثوار حول قيادة موحدة لإدارتها. وفي العام التالي أصروا على دعوتي للحضور، بعدما قدمت دراسة تنبأت فيها بفشل ذريع لتلك الثورات، بعد أن تحالف الإسلاميون مع العسكريين من أجل اقتسام السلطة والمصالح، على حساب التيارات المدنية والليبرالية، التي قادت حركات التغيير في الشارع العربي. وضعنا الصينيون في قائمة الخبراء الأولى بالرعاية، ولهذه قصة أخرى سنرويها في حينها لارتباطها بقضايا أمنية كبيرة. استغلت الصين وجودها المكثف بين الخبراء ورجال الأعمال العرب الذين استضافتهم بسخاء، في تلك الفترة، لفهم التحولات الجذرية، التي شهدتها ثورات الربيع العربي. فوجئنا بأن الصين بدلا من أن تعمل على دعم عمليات التغيير، لشعوب اتخذت من نجاح الشعب الصيني في التحول السياسي والاقتصادي، عبر العقود الثلاثة السابقة لتلك الثورات، نموذجا يحتذى، بأنها تنصرف تدريجيا عن السياسيين، وتعود أدراجها إلى الارتباط الوثيق بالأنظمة التي التفت حول الثورات، وأعادتها للخلف. وظفت الصين قدراتها المالية في دعم الأنظمة الجديدة، واستغلت وسائل التواصل الاجتماعي المحظورة على شعبها في الداخل، في تحسين صورة الصين سياسيا، والدعاية للمنتجات والتحالفات الاقتصادية في الخارج. زاد الأمر عداءً للثورات،عندما جاء الرئيس الحالي شي جين بينغ للسلطة، عام 2013، فهو خريج المدرسة التقليدية للحكم في الصين، ويعد نفسه امتدادا للزعيم التاريخي ماو تسي تونغ. وضع الرئيس شي استراتيجية جديدة للصين، تحارب وسائل التغيير الشعبي، واعتبر من يدعو إليها، إما مواليا للغرب، أو يعمل لحسابه، وأصبح هذا المبدأ وسيلة للهجوم على أية تحركات شعبية، سواءً وقعت في الدول العربية أو في تايلند، أو بعد ذلك في ميانمار المجاورة لحدودها. وبينما رفعت الصين المخصصات المالية لاستقدام الباحثين العرب، خاصة من المصريين الراغبين في استكمال دراسات الماجستير والدكتوراه وتوسعت في إنشاء مراكز البحوث تعليم اللغة وأقسام اللغة الصينية في العالم العربي، اقحمت العديد منهم في علاقات مع قيادات حزبية ومراكز دراسات مستحدثة، تعمل لحساب الأجهزة الأمنية، وتوقيع اتفاقيات للتعاون الأمني مع العديد من الدول العربية، لملاحقة المعارضين تحت ستار»التعاون الأمني لمكافحة الإرهاب». كشفت الأحداث المتلاحقة أن الصين التي بنت نظامها السياسي عبر ثورة شعبية بدأت بتشكيل الحزب الشيوعي الصيني عام 1921، وانتهت بدخول الثوار العاصمة بكين مطلع أكتوبر 1949، لا تريد استمرار الحالة الثورية في أي مكان آخر. فقد أصبح لدى الصينيين معتقد بأن الحديث عن الثورات أثناء سقوط الدول الشيوعية وانهيار سور برلين، كان دافعا لشباب الصين للانتفاضة في الميدان السماوي وسط العاصمة بكين عام 1989. فالصين تخشى من رياح التغيير الثوري، لأنها دولة متعددة القوميات واللغات ورغم حكمها الشمولي المسيطر على مقدرات البلاد كافة ونحو 1.4 مليار نسمة، فإن الجيل الصاعد خاصة من الذين تلقوا تعليمهم في الخارج، يريد المزيد من المشاركة في نظام الحكم وإدارة الدولة. وتطفو هذه الرغبات على السطح من حين للآخر، منذرة بمطالب قد تتحول إلى كابوس لنظام سياسي يمكن أن يتعرض للانهيار إذا ما شب يوما تيار ثوري في بلد عاني من عدم الاستقرار والفقر والمجاعات لفترات زمنية طويلة، ولا يهتم الحزب الشيوعي حقيقة إلا بتحقيق المزيد من المكاسب الاقتصادية أينما كانت، ومهما كانت شمولية أو فساد الأنظمة التي يتعامل معها.