نحمد الله تعالى أن اصطفانا واجتبانا من بين خلقه وجعلنا من أتباع هذا الدين العظيم، دين الإسلام الذي جعله الله روحا تحيا به النفوس، ونورا تهتدي به القلوب، وتستنير به العقول، وتستقيم به الجوارح على صراط الله المستقيم {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(الشورى:52). إن من جمال هذا الدين وكماله في تشريعاته وعباداته أنه نوع بين هذه العبادات في النوع والشكل وفي الزمن والوقت. نوع في الوقت ما بين عبادات يومية كالصلوات الخمس، أو أسبوعية كالجمعات، أو سنوية كالصوم والزكاة، أو عمرية كالحج. ونوع بينها في الأشكال والهيئات ما بين عبادة بدنية أو مالية أو بدنية مالية معا كما في الحج والجهاد. وإنما كان كل ذلك ليكون للإيمان القلبي مظاهر شتى تدل عليه وتثبته وتقويه. والمقصود أن يكون لدينا منهج عبادي رباني فذ يهذب النفس تهذيبا شاملا كاملا من جميع جوانبها، ويصوغ الصفوة الطاهرة الصالحة من البشر الذين هم أهل لأن يباهي الله تعالى بهم الملأ الأعلى من الملائكة الأبرار. ومنافع هذه العبادات تتعدد وحكمها تتنوع لتخدم هذا المقصد الشريف في صياغة هذا المؤمن المراد: فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. والزكاة طهرة للمال، وطهارة وزكاة للمال والنفس، وإحسان للفقراء ومواساة بين أبناء الدين. والحج مؤتمر سلام، واجتماع وتعاون ووحدة ، وشهود لمعالم الخير {ليشهدوا منافع لهم}.وأما الصيام: ففيه من المنافع والحكم والمقاصد ما يجل عن الوصف ويند عن الحد والعد.. ولا نجد وصفا أجمع من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه: [الصوم جنة]. والجنة هي السترة.. وكل ما يقي من السلاح وغيره. والمعنى أنه ستر وحماية ووقاية. فهو ستر وحماية ووقاية من الشهوات المردية والغرائز المؤذية: فالشبع أصل كل مفسدة، وشهوة البطن مفضية إلى كل سوء، خصوصا عند الشباب والعزاب؛ فإن الأز على الشهوة من فعل إبليس، ويزداد كلما شبع المرء وامتلأت معدته، فيدعوه إلى فعل الحرام أو رؤيته أو التفكير فيه، قال القرطبي: "كلما قلَّ الأكل ضعفت الشهوة، وكلما ضعفت الشهوة قلت المعاصي". فالصيام يضيق على الشيطان مجاريه، ويحمي الشاب ويحفظه ويقيه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: [يا معشر الشباب، من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء].متفق عليه. والصوم حماية من الأخلاط الرديئة: والأمراض التي غالبا ما تأتي بسبب التخمة وكثرة الطعام (فإن المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء)، وقد روى أحمد والترمذي وابن ماجة عن المقدام بن معديكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه](صحيح الجامع 5674). والصوم صحة كما روي في الحديث عند الطبراني: [صوموا تصحوا]. وقد قيل: إن مما أهلك البرية، وقتل الوحوش في البرية إدخال الطعام على الطعام قبل الانهضام. ثلاث مهلكات للأنام .. .. ومدعاة الصحيح إلى السقام دوام مدامة ودوام وطء .. .. وإدخال الطعام على طعام. والصوم حماية من الغضب والسفه والطيش: فهو يضبط النفس، ويعود صاحبه على التحكم في انفعالاتها وغرائزها، ولا يسترسل مع أهوائها وعوائدها، فيملك نفسه ولا تملكه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: [ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب](متفق عليه). وقال: [والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب. فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم…. الحديث](رواه البخاري ومسلم). فالصوم يحفظ صاحبه من مجاراة السفهاء، ومخاصمة الجهلاء، والوقوع فيما لا يقبله العقلاء… ..والصوم جنة من كل خلق رذيل أو كل فعل مشين: وقد قال صلى الله عليه وسلم: [ليس الصوم من الطعام والشراب وإنما الصوم من اللغو والرفث]، وفي البخاري عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم قال: [من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه]. فالصوم يهذب أخلاق الصائمين، ويحفظ على العبد لسانه وجميع جوارحه كما قال جابر بن عبدالله: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الخادم والجار، وليكن عليك سكينة ووقار، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء". ..الصيام وقاية من غضب الجبار: روى الإمام أحمد في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [الصيام جنة وحصن حصين من النار]. وذلك أنه من أكبر المعينات على تقوى الله، كما يقول ابن القيم رحمه الله: "والصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات؛ فهو من أكبر العون على التقوى". بل إن التقوى هي العلة المنصوص عليها في كتاب الله عز وجل فكأنها هي المقصود الأعظم وهي كذلك؛ قال تعالى: {يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}. ..مظاهر التقوى في الصيام: إعداد نفوس الصائمين لتقوى الله يظهر من وجوه كثيره: أعظمها شأنا، وأظهرها أثرا، وأعلاها شرفا، أن الصيام موكول إلى نفس الصائم وضميره، لا رقيب عليه فيه إلا الله، فهو سر بين العبد وبين الله.. ولولا تقوى الله ومراقبته وخشيته والحياء منه لم يلتزم الأمانة في حفظ الصيام؛ فإذا استمر هذا شهرا كاملا كان تدريبا للنفس على التزام هذا الحال الغالي والمرتقى العالي فتتعوده النفس ويصبح لها خلقا وعادة تستمر معها زمانا بعد رمضان وربما التزمته إلى آخر العمر. والصوم تربية للنفس، وتقوية العزائم، وتهذيب للغرائز، وتتميم للأخلاق، واطمئنان للنفس، وانشراح للصدر، وتعظيم لشعائر الله. وللصوم حكم باهرة وآثار بديعة باطنة وظاهرة، ودروس لا تنقضي، وعبر لا تنتهي، وآثار عظيمة على الفرد والجماعة.