اعلم أن الصوم ثلاث درجات: صوم العموم وصوم الخصوص وصوم خصوص الخصوص، أما صوم العموم فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة.. وأما صوم الخصوص فو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام، وأما صوم خصوص الخصوص فصوم القلب عن الهمم الدنيئة والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله عز وجل بالكلية، ويحصل الفطر في هذا الصوم بالفكر فيما سوى الله عز وجل واليوم الآخر، وبالفكر في الدنيا إلا دنيا تراد للدين ؛ فإن ذلك من زاد الآخرة وليس من الدنيا.. وأما صوم الخصوص-وهو صوم الصالحين-فهو كف الجوارح عن الآثام وتمامه بستة أمور: الأول: غض البصر وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يذم ويكره، وإلى كل ما يشغل القلب ويلهي عن ذكر الله عز وجل قال صلى الله عليه وسلم ”النظرة سهم مسموم من سهام إبليس لعنه الله، فمن تركها خوفاً من الله آتاه الله عز وجل إيماناً يجد حلاوته في قلبه..” الثاني: حفظ اللسان من الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة والمراء، وإلزامه السكوت وشغله بذكر الله سبحانه وتعالى وتلاوة القرآن فهذا صوم اللسان، وقد قال سفيان: ”الغيبة تفسد الصوم”رواه بشر بن الحارث عنه، وروى ليث عن مجاهد: خصلتان يفسدان الصيام: الغيبة والكذب، وقال صلى الله عليه وسلم: ”إنما الصوم جُنة، فإذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم..”. الثالث: كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه لأن كل ما حرم قوله حرم الإصغاء إليه؛ولذلك سوّى الله عز وجل بين المستمع وآكل السحت فقال تعالى: ”سمَّاعون للكَذِبِ أكَّالون للسُّحْتِ” وقال عز وجل: ”لولا ينهاهُمُ الأحْبَارُ عنْ قَوْلِهِمُ الإِثمَ وأَكْلِهِمُ السُّحتَ” فالسكوت على الغيبة(لأنه سكوت على المنكر)قال تعالى: ”إنِّكُمْ إذاً مثلُهُم”. الرابع: كف بقية الجوارح عن الآثام من اليد والرجل عن المكاره، وكف البطن عن الشبهات وقت اللإفطار، فلا معنى للصوم وهو الكف عن الطعام الحلال ثم الإفطار على الحرام، فمثال هذا الصائم مثل من يبني قصراً ويهدم مصراً، فإن الطعام الحلال إنما يضر بكثرته لا بنوعه، فالصوم لتقليله، وتارك الإستكثار من الدواء خوفاً من ضرره إذا عدل إلى تناول السم كان سفيها، والحرام سم مهلك للدين، والحلال دواء ينفع قليله ويضر كثيره، وقصد الصوم تقليله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ”كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش”فقيل هو الذي يفطر على الحرام، وقيل هو الذي يمسك عن الطعام الحلال ويفطر على لحوم الناس بالغيبة وهو حر ام، وقيل هو الذي لا يحفظ جوارحه عن الآثام. الخامس: أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلئ جوفه فما من وعاء أبغض إلى الله عز وجل من بطن ملئ من حلال، وكيف يستفاد من الصوم كسر عدوّ الله وكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره وربما يزيد عليه في ألوان الطعام؟ حتى استمرت العادات بأن تدخر جميع الأطعمة لرمضان فيؤكل من الأطعمة فيه ما لا يؤكل في عدة أشهر، ومعلوم أن مقصود الصوم الخواء وكسر الهوى لتقوى النفس على التقوى، وإذا دُفعت المعدة من ضحوة نهار إلى العشاء حتى هاجت شهوتها، وقويت رغبتها، ثم أطعمت من اللذات وأشبعت لذتها وتضاعفت قوتها وانبعث من الشهوات ما عساها كانت راكدة لو تركت على عادتها، وروح الصوم وسره تضعيف القوى التي هي وسائل الشيطان في العود على الشرور ، ولن يحصل ذلك إلا بالتقليل وهو أن يأكل اكلته التي كان يأكلها كل ليلة ولو لم يصم فأما إذا جمع ما كان يأكل صحوة إلى ما كان يأكل ليلاً فلم ينتفع بصومه، بل من الآداب أن لا يكثر النوم بالنهار حتى يحس بالجوع والعطش ويستشعر ضعف القوى فيصفو عند ذلك قلبه ويستديم في كل ليلة قدراً من الضعف حتى يخف عليه تهجده وأوراده، فعسى الشيطان أن لا يحوم على قلبه فينظر إلى ملكوت السماء، وليلة القدر عبارة عن الليلة التي ينكشف فيها شيء من الملكوت وهو المراد بقوله تعالى: ”إنا أنزلناه في ليلة القدْرِ”ومن جعل بين قلبه وبين صدره مِخْلاة(المخلاة: السلة أو الوعاء الذي يوضع فيه الشعير للبهائم ثم استعير للإنسان) من الطعام فهو عنه محجوب وإن أخلى معدته فلا يكفيه ذلك لرفع الحجاب ما لم يخل همته عن غير الله عز وجل وذلك هو الأمر كله، ومبدأ جميع ذلك تقليل الطعام.. السادس: أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقاً مضطرباً بين الخوف والرجاء؛إذ ليس يدري أيقبل صومه فهو من المقربين أو يرد عليه فهو من الممقوتين؟وليكن كذلك في آخر عبادة يفرغ منها فقد روي عن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه مر بقوم وهم يضحكون فقال: ”إن الله عز وجل جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستقبون فيه لطاعته فسبق قوم ففازوا وتخلف أقوام فخابوا فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون وخاب فيه المبطلون، أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه والمسيء بإسائته”أي كان سرور المقبول يشغله عن اللعب وحسرة المردود تسدّ عليه باب الضحك.. فكلما انهمك الإنسان في الشهوات انحط إلى أسفل السافلين والتحق بغمار البهائم، وكلما قمع الشهوات ارتفع إلى اعلى عليين والتحق بأفق الملائكة، والملائكة مقتربون من الله عز وجل والذي يقتدي بهم ويتشبه بأخلاقهم يقرب من الله عز وجل كقربهم، فإنّ الشبيه من القريب قريب، وليس القرب ثَمَ بالمكان بل بالصفات، وإذا كان هذا سر الصوم عند أرباب الألباب وأصحاب القلوب فأي جدوى لتأخير أكلة وجمع أكلتين عند العشاء مع الإنهماك في الشهوات الأخر طول النهار؟ولو كان لمثله جدوى فأي معنى لقوله صلى الله عليه وسلم: ”كم من صائم ليس له من صومه إلا الحوع والعطش”.