بات واضحاً أن هناك من صار مسكوناً ب"نظرية المؤامرة" إلى حدود المرض، يلجأ إليها لأجل إرضاء مكبوتاته النفسية، وإشباع فضوله الأيديولوجي، فتجده يبرر للهزيمة بمسوغ الضعف والتخلف، ويشكك في النصر باعتباره خدعةً وتكتيكاً؛ احتلال الولاياتالمتحدةالأمريكيةلأفغانستان في 2001، كان نتيجة عمالة حركة طالبان لمن كان يغدق عليها بالمال والسلاح، وانتصار طالبان على أمريكا هو حصيلة ترتيبات، ونتيجة تفاهمات تمت بينهما، من أجل أن تكون الحركة رأس حربة لأمريكا في حربها ضد الصين، من ثم، تصير العمالة بوجهين، عمالة لاستدعاء المحتل، وعمالة للتحرر منه. من الصعب تسويغ هذا التفسير، وفوق ذلك، من الصعب محاولة تفكيك مثل فهم كهذا، فهو مبني أساساً على جملة من المتناقضات، مع أو ضد، للوصول إلى نتيجة تخدم أيديولوجية معينة، تحاول التقليل أو بالأحرى التشكيك في الانتصار. إن الشعوب العربية، كما جرت العادة، منقسمة في هذه القضية وغيرها إلى فئتين؛ فئة مناصرة للمقاومة، بغض النظر عمن هو المقاوم، ومن أي أيديولوجية أو مذهب أو عرق أو دين كان، ما دام يدافع عن الأمة، ويذود عن قيمها، ويسعى إلى تحرير أراضيها.. وفئة أخرى تميل أكثر إلى استراتيجية السلام، والذوبان في مخططات الغرب، والانتصار لقيمه، لهذا تنظر إلى الجيوش الغربية كصديق جاء من بعيد لمساعدة هذه الشعوب المغلوبة على أمرها، لكي تقهر أعداءها، فاستقبلت الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان والصومال وغيرها بالأفراح والورود، مغدقة عليه المدح والثناء، ومعتبرة إياه ضرورة لمحاصرة التّطرف، والقضاء على الأصولية، وبالتالي، نقل المجتمعات العربية إلى حياة أفضل، تسود فيها قيم الحرية والديمقراطية والعيش المشترك. يكاد يكون الحوار بين الطرفين معدوماً، وإذا كان فهو مشوّه بخلفيات الكره والعداوة، صحيح أن الغلبة غالباً ما كانت للفئة الأخيرة، فهي مدعومة من طرف الأنظمة، ومتحكمة في المال والإعلام، ويسوق لها الغرب كبديل وحيد، وشريك موثوق فيه، حتى يعمّ الأمن، ويسود السّلام في المنطقة، لكن أطروحاتها لا تلقى قبولا إلا لدى قلة قليلة تطلق على نفسها اسم "النخبة". أما الشعوب فهي تميل بشكل واضح إلى الأولى، وتنظر إليها بأنها تعبيرٌ عن أشواقها، وحاضنة أحلامها، ومطامحها، لذلك تعاطفت مع أحداث القدس مؤخراً، وناصرت غزة في ردها للعدوان الإسرائيلي، وفرحت لسقوط الطغاة في تونس ومصر وليبيا واليمن، وساندت الشّعب السّوري في محنته، وتغيرت نظرتها إلى حزب الله، بعدما صار شريكاً للثورة المضادة، ونصيراً للطغاة، وجندياً في صفوف الحرب الطائفية في المنطقة التي تقودها إيران، كما كانت رافضة من قبل للعدوان الأمريكي على العراق في 2003، وقبله لغزو التحالف لأفغانستان سنة 2001، وعندما انسحب الجيش الأمريكي من بلاد الأفغان هذه الأيام، بعد عشرين سنة من الاحتلال، فرحت لهذا النصر المبين، ليس لأنّ صاحب الفضل في هذا النصر هو حركة طالبان، التي تتدثر بالزّي الإسلامي، ويحضر الدين بشكل كبير في خطابها ولغتها، بل لأنّه احتلال زال، وانتصار تحقق لبلد عانى، وما زال يعاني، من ويلات الحروب والدمار والفوضى. لقد قادت أمريكا بعد نهاية الحرب الباردة حرباً ضد الإسلام تحت مسميات عدة، من بينها الحرب على الإرهاب، وتجفيف منابع التطرف والتشدد، والعمل على إيجاد نسخة جديدة من الإسلام، تقوم على الاعتدال والوسطية، هذه الحرب شاركت فيها الأنظمة العربية بشكل أو بآخر، وقد تقاطع خطابها مع خطاب الغرب، بتصوير الإسلام، وكأنّه دين يدعو إلى العنف والإرهاب، لما فيه من مضامين، مستقاة من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، تدعو إلى التعصب والكراهية، وتؤسس ل"خرائط الدم"، كما يدّعي هؤلاء كذباً وزوراً، فلم يكن أمامها، والحال هذه، من وسيلة إلا الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني، وإصلاح المنظومة التعليمية في البلاد العربية. تجديد وإصلاح كان الغرض منهما تعديل الخطاب والمنظومة التعليمية، حتى يتوافقا مع ما تطلبه المنظومة الغربية، من خلال إنتاج قيم جديدة تكون أقرب إلى الغرب منها إلى الإسلام، فتكون النتيجة ظهور جيل ممسوخ بعيداً عن دينه وقيمه وهويته. وعليه، فإن الغرب لم يعتمد في حربه على الإسلام على سلاح المدافع والقنابل فقط، إنما اعتمد كذلك على سلاح الأفكار، فكان له مفعول أكبر من الأول، لأنّ السّلاح في هذه الحالة مصوّب تجاه العقول، لإثارة الشّكوك في التّعاليم الإسلامية وجدواها، وما جعله أكثر عنفاً وقساوةً هو أنه كان على جبهتين؛ جبهة خارجية تقودها أمريكا وحلفاؤها، وأخرى داخلية، متمثلة في الأنظمة المتحالفة مع الغرب، كعربون ولاء وطاعة وخدمة. ..أسئلة بلا إجابات لا شك في أن انسحاب أمريكا من أفغانستان في هذا الوقت بالذات، يثير سيلا من الأسئلة، وسرعة سيطرة حركة طالبان على البلد، يطرح أسئلة بلا إجابات، لكن كل هذا لا ينفي حجم الخسائر الأمريكية مؤكداً، في الوقت ذاته، بأس عناصر الحركة، وبلاءهم الحسن في القتال، ولعل التّضحيات التي قدموها على مذبح الحرية والاستقلال خير شاهد على ذلك. تقول التقارير الأمريكية إن أمريكا أنفقت ما مقداره "تريليونا دولار، وقتل 2448 جندياً أمريكياً، إضافة إلى 454 جندياً بريطانياً"، فضلا عن التشويه الذي تعرضت له صورة أمريكا من الناحية المعنوية والرمزية، ما جعل الرئيس الأمريكي جو بايدن يخفف من وقْع الهزيمة عندما صرح قائلا: "أفغانستان مقبرة الغزاة"، في حين تذهب تقارير الحركة في معرض ردها على الاتهامات التي تطالها، على نحو أنّ "تحرير أفغانستان جاء برغبة أمريكية"، حيث جاء الرد على لسان الملا عبد الغني بارادار بالقول: "إن قتالا لعقدين قدمت فيه طالبان أكثر من 50 ألف شهيد وآلاف الأسرى، واستشهد نصف الصف القيادي، بجانب أميرها الأول الملا عمر، ثمّ الثاني الملا منصور، وهذه القصة الطويلة لا يدركها البعض". غير أنّ ذلك لا ينفي أن تكون لأمريكا حساباتها الخاصة من هذا الانسحاب في هذا الوقت بالضبط، حتى لو كان تتويجاً لجملة من جولات المفاوضات في العاصمة القطرية الدوحة، لأنّها، أي أمريكا، قلّما تصرح بالأسباب الحقيقة وراء سلوكها، ولطالما غطت ذلك بالخسائر المادية، التي خسرتها في حروبها ومغامراتها. لكن، ما هو مؤكد أنّ العالم مقبلٌ على تغييرات مهمة في شبكة تحالفاته، بسبب الصراع القائم بين الولاياتالمتحدةوالصين على قيادة العالم، وما هو مؤكد أكثر أن أمريكا لا تنظر من هذه اللحظة إلى الإسلام كعدو أول لها، تجيش ضده الجيوش، وتقيم له التحالفات، ربما هي استراحة محارب، كما يقال، لأنّ الحرب لم تنته، وأنّ النصر للغرب لم يتحقق بعد، وأن الخصم، أي الإسلام، على الرّغم من ضعفه، إلا أنه أظهر بأساً شديداً في المقاومة. اليوم، هناك معركة ينشغل بها العقل الاستراتيجي الأمريكي أكثر، وهي معركة القيادة العالمية مع الصين، معركة تحتاج إلى تجميع القوة في تجاه واحد، وإقامة تحالفات جديدة، بسبب قوة الخصم اقتصادياً وعسكرياً، وإغراء نموذجه السياسي في التحكم في المجتمع ومراقبته، كما أثبتت أزمة كورونا؛ هي معركة مفروضة، إذن، بما أن كل الحوارات بينهما لم تؤدِ إلى تفاهمات، وكل المفاوضات لم تسفر عن أي نتيجة، وكل المقترحات وضعت في سجلات الأرشيف، فأمريكا، على ما يبدو، لا ترضى بمشاركة الغير في القيادة، لاسيما إذا كان من الشرق، والصين راغبة بالحدود الدنيا منها، ولن تقبل بغير ذلك بديلا. وسط هذا الوضع المستجد في العالم، أمريكا كأكبر قوة في العالم، والصين كقوة صاعدة منافسة، تُصاغ استراتيجية جديدة، استراتيجية تقف بين حرب غير مكتملة على الإسلام، وحرب أخرى جديدة، تبرز معالمها الأولى ضد الصين، ونتيجة لهذا تتغير التحالفات في العالم، تنتهي بعضها، وتبدأ أخرى، وقد ينقلب الصديق عدواً، وقد يغدو العدو صديقاً، هكذا هي السياسة، لا صداقات دائمة، ولا عداوات مستمرة، فالمصالح هي ما يحددها.