شباب بين مطرقة الفقر والبطالة يعد الشغل أولوية من بين أهمّ ما يفكّر فيه الشاب بمجرد أن ينهي دراسته أو تكوينه، بينما يبقى حلما بالنسبة لمن يضطر إلى قطع تعليمه أو منعته ظروف من إكماله، ويعتبر منصب العمل في أيامنا هذه من المفقود خصوصا بالولايات الداخلية حيث يجد الشباب أنفسهم يسعون وراءه حتى وإن تطلب ذلك التنقل إلى ولاية أخرى وترك العائلة والديار، لكن موضوعنا هذه المرة ليس عن العمل أو البطالة التي كثر الحديث عنهما وإنما ارتأت "الحياة العربية" أن تسلط الضوء على واقع الشباب الذي ينتقل إلى العاصمة بحثا عن قوت الحلال وعن كسب لقمة العيش، هل حقيقة يجد العمل فيها بسهولة؟ ما هي المعوقات التي تواجهه أثناء بحثه عن العمل، ما هي ظروف عمله، وكييف يعامل؟نزلت "الحياة العربية" إلى الميدان وتقصت حقائق كشف لنا مدى معاناة الباحث عن العمل في العاصمة، وقصص شباب كانوا يحلمون بحياة أفضل، بكرامة وعفة، لكن تسير الرياح بما لا تشتهيه السفن... وليس كل ما يرغب فيه المرء يدركه..إستغل صغر سنه.. أسكنه مستودعا مع الجرذان.. النهاية سرير في المستشفىشاب في ريعان شبابه لم يظن يوما أنه سينهار سريعا وهو لم يحقق شيئا من أحلامه، كان طموحا، حالما، قوي البنية، لكن الظروف فرضت عليه أن يختار بين أمرين أحلاهما مر.. أن يبقى في قريته يصارع الفقر والبطالة أو السفر والتغرب بحثا عن العمل..التقينا "سمير.ب" صاحب 18 ربيعا كان ممددا فوق سرير بمستشفى بني مسوس، نظر إلينا نظرة طفل بريء تاه عن أحضان أسرته، لم نتمكن في البداية من الحديث معه نظرا لسوء حالته الصحية، حيث قال لنا بعض الممرضين ممن أشرفوا على رعايته لقد جاء به رجل كبير، أدخله الاستعجالات وذهب، لم يكن يعرف أحد شيئا عنه، لقد كان في حالة جد سيئة، حمى شديدة يبصق الدم بكميات كبيرة جعلت المنظفات يحترن في أمره، وبفضل التحاليل والعلاج تمكنوا من معرفة مرضه وسببه، فقد تعرض سمير لعضة من الجرذان التي كان يقاسمها المستودع، ما تسبب في إصابته بتسمم كاد يودي بحياته.. بعد يومين عدنا لزيارة سمير، وكانت حالته قد استقرت قليلا، وفي هذه المرة لم يكن لوحده بل بجانبه والدته التي أعادت لمحياه الأمان والابتسامة. بدأ سمير يحكي قصته إذ أراد أن يحصل على عمل ليكسب قوت يومه، وسمع عن بعض أصدقائه بالعاصمة على أنها جنة وبمجرد أن تطأ قدميه العاصمة سيجد كل ما سيبحث عنه، فغادر بيت أهله دون أن يخبرهم وجاء إلى العاصمة وقصد هو رفاقه مزرعة أحد الأغنياء يملك مشاتل وبدأ فعلا العمل لديه، يعمل طول النهار أعمالا جد شاقة وينام في الليل في مستودع للخردة يمتلأ هذا الأخير بالجرذان والحشرات، أهمل غذاءه ونومه، ولم يكن يهتم سوى بالعمل حتى اليوم الذي عضته إحدى الجرذان ولأنه شاب وحيوي لم يبال وذهب إلى عمله.لكن سرعان ما تهاوى على الأرض، ولم يتفق إلا وهو في المستشفى، وقال سمير بعد أن تنهد "حرث عليا حتى مصلي دمي.. ورماني كي مرضت.."عمل بجدّ ..سقط من الطابق الثالث ..وفقئت عينه كانت صدمتنا كبيرة ،إذ ونحن نغادر غرفة سمير وبمجرّد مرورنا أمام قسم الإستعجالات حتى سمعنا صرخة تنم على ألم شديد وبفضولنا الصحفي إستطعنا أن نتحرى الأمر ،حيث صدمنا من هول ما رأيناه شاب تحوّل إلى أشلاء وكأنّه قطعة تمّ تغطيتها بلون أحمر ،دخلنا إلى قسم الإستعجالات لنسأل عن الأمر وبحكم تدهور حاله لم نستطع ،تابعنا الأمر من بعيد وإستطعنا أن نحصل على معلومات تخصّه حيث قال لنا زميله عبد القادر"كنّا نعمل بشكل عادي ولا أعلم ما حصل له بالضبط فجأة فقد التوازن وسقط من الطابق الثالث الذي كنّا نعمّر جدرانه ولحسن حظّنا أنّنا أمام المستشفى..توقف عن الحديث لهول مارآه.. لكنّه واصل بعدما سألناه عن زميله قال:"سليم يبلغ من العمر 22سنة جاء من ولاية سطيف ،وبحكم خبرته في مجال البناء كان مطلوب بكثرة وهذا المشروع لدينا أكثر من 9أشهر منذ بدأناه ،وكلّ شيء كان عادي ،أظنّه تعب قليلا لأنّنا نعمل هذه الأياّم بشكل مكثّف لننهي المشروع في آجاله"وبعد ساعتين عدنا إلى قسم الإستعجالات وسألنا عنه الممرضات فقالت إحداهنّ إنّه في حالة يرثى لها ،لقد سقط على الآجر وبحكم إرتفاع البناية كان الوقعة عنيفة جدّا ولأنّ الآجر حادّ فقد تسبب له في عدّة جروح على مستوى الوجه وكسور في كلّ جسمه ،والأمر الأسوء هو تفقؤ عينه.غادرنا مستشفى بني مسوس وكلّنا أسف على حال شباب اليوم ،وكانت الوجهة هذه المرّة بلدية الشراقة.علال:ولد فلاح يبقى فلاحبدأنا جولتنا في بلدية الشراقة بحكم إستقطابها لأعداد كبيرة من الشباب القادم من مختلف الولايات..وبما أنّ المقاهي هي وجهتهم المفضلة،إرتأينا أن نسألهم هناك،حيث قال لنا السيد عمر/س البالغ من العمر 63 سنة والقادم من ولاية ميلة والذي وجدناه قرب مقهى ببلدية الشراڤة إنه قدم إلى الجزائر العاصمة من أجل البحث عن قوت أبنائه السبعة القصر ويضيف قائلا "أنا أعمل بناء منذ أن كان عمري 17 سنة والحمد لله هذه هي الحرفة التي كسبت بها قوت أبنائي لكني أصبحت اليوم غير قادر على تحمل المزيد من مشاق هذا العمل المتعب الذي لا يطاق" وآثار الحسرة بادية على وجهه من شدة التأسف على الوضع المزري الذي حتم عليه ممارسة هذا العمل. وأكد لنا علال والذي يبلغ من العمر 43 سنة أنه قدم من برج بوعريريج وهو يمارس هذا العمل الذي ورثه عن أبيه قائلا لنا "ولد الفلاح يبقى فلاح".كما صادفنا في جولتنا لبعض المعامل المتواجدة ببوزريعة مجموعة من الشبان لا يزيد عمرهم عن 20 سنة يمارسون هذا العمل الشاق، وعند اقترابنا منهم قال لنا أحدهم إنه يبلغ من العمر 17 سنة قدم إلى هنا من ولاية المدية مع أبيه ليساعده في إعالة العائلة بعد توقفه عن الدراسة في السنة السادسة قائلا لنا "إن الجميع في حينا يتوقف عن الدراسة في سن مبكرة ويأتي إلى الجزائر العاصمة لممارسة مهنة البناء كون آباءنا يمارسون هذه المهنة، من جهة ومن جهة أخرى لا تتطلب الكثير لا من المال ولا من المستوى التعليمي".وفي نفس السياق تقربنا من بعض أصحاب البنايات الجديدة سائلين إيّاه عن البنائين المطلوبين بكثرة والذي أجابنا قائلا "إن بنّاءي الشرق مطلوبون بكثرة" مؤكدا لنا أن العدد الهائل من البنائين المتواجدين بالجزائر العاصمة والقادمين من ولايات الشرق الجزائري خاصة ميلة، سطيف، جيجل يفوق بكثير اليد العاملة النشطة في الشركات الصينية والمصرية. حائط المسجد والمقهى مكان اجتماعهم اليومي على غرار الأماكن العمومية التي يجتمع فيها شباب وشيوخ الأحياء بالعاصمة من حدائق وأماكن الترفيه وشواطئ البحر، هؤلاء القادمون من ولايات بعيدة يفضلون المقاهي لاجتماعاتهم اليومية كل مساء بعد فترات العمل بالنسبة للعمال، إذ تجدهم يحتلون بعض المقاهي كلية كتلك المتواجدة ببوزريعة في وسط البلدية حيث تجدهم جماعات جماعات يستأنس بعضهم بالآخر مشكلين فرقا متعاضدة فيما بينها تكون غالبا من نفس الجهة. ومن جهة أخرى تجد العاطلين عن العمل يصفون أمام المسجد حيث يعرفهم الجميع أنّهم يبحثون عمن يوجههم إلى مختلف المعامل الموجودة وحتى أصحاب المنطقة الذين يبحثون عن بنائين أو بلاطين ودهانين يقصدون هذه المقاهي لعرض خدماتهم على هؤلاء وكأنها أصبحت تتحدى مراكز الدولة المخصصة للبحث عن العمل والتي أثبتت عدم نجاعتها.وفي سياق آخر، أكد لنا صاحب المخبزة أهم يشكلون حركة مكثفة أمام محلّه مدامت تقع بمحاذاة المقهى .من جهته قال لنا صاحب هذه الأخيرة أنّهم يشكلون الركيزة الأساسية لعمله ،وتفرغ المقهى بمجرّد حلول مناسبة أو عيد ،إذ يتجهون إلى ولاياتهم ،إذ تبدو البلدية هادئة ولا حياة فيها.أوهمهم بالعمل وأخدهم إلى وجهة غير معلومة ..ثمّ تركهم يصارعون المجهولروى لنا أحد العاملين في المقهى عن حادثة شكلت موضوعا للحديث آن ذاك فالكلّ ممن سمعها يصاب بالدهشة والإستغراب مع رغبة في الضحك ،حيث قال أنّه في أحد المرات قام أحد الرجال الأثرياء في بوزريعة ولأنّهم أزعجوه بوقوفهم أمام بيته ،بجلب شاحنة كبيرة وإتجه إليهم وأخبرهم عن عمل وأغراهم بالأجرة وبأشياء أخرى وأنّ المشروع كبير ويحتاج إلى عدد كبير من العمال فقبلوا جميعا وصعدوا إلى الشاحنة وإنطلق بهم إلى المجهول مكان معزول وبعيد عن العاصمة وأنزلهم فيه قائلا أنّه سيحضر صاحب المشروع ،وغادر المكان ولم يعد ،لكنّ الشيء الذي لم يستطع إستوعابه أنّهم عادوا بعد يومين إلى ذلك المكان ..ما تسبب في حسرته . يحملون شهادات العليا يفترش الكرتون ويتكئ على الآجورنفس الحال عاشه "كريم/ب" الحامل لشهادة الليسانس في علوم القانونية من ولاية الطارف جاء إلى العاصمة لممارسة مهنة البناء بعد أن أغلقت في وجهه كل فرص الظفر بمنصب شغل في ميدان تخصصه، قال لنا إنه يمارس هذه المهنة منذ مدة طويلة بعد اقتناعه بعدم جدوى الانتظار في ظل الظروف المزرية التي تعيشها عائلته؛ حاله حال "عيسى /ر" الحامل لشهادة ليسانس في علم الآثار إذ وجدناه بأحد المباني يعمل كبناء وبعد حوارنا معه أكد لنا أنه يحمل هذه الشهادة منذ أكثر من 5 سنوات ولم يتلق الرد على كل الطلبات التي تقدم بها إلى المصالح المعنية. وبعد دردشة طويلة أخدنا إلى مكان مأواه المتواجد وسط ركام من الحطب والغبار يفترش الكرتون ويتكئ على الآجور ففعلا يثير شفقة كل من يراه على تلك الحال، وأكد لنا آخرون أنه حتى الذين لا زالوا لم يتخرجوا من الجامعات بعد يأتون إلى هنا لقضاء عطلهم للبحث عن عمل لتوفير مصاريف الدخول الجامعي. وحوصلة خرجتنا هذه أنّ ليس كلّ ما يلمع ذهبا ،حتى وإن كانت العاصمة عاصمة والمناصب متوفرة لكن الإنطباع الذي وجدناه عند الكثيرين هو الإستياء والحسرة من الأوضاع التي وصلوا إليها ،ولم تكفيهم الغربة والبعد عن الأهل ليواجهوا أشخاصا لا رحمة في قلوبهم ولا يهمّهم شيء سوى المال والأعمال والمشاريع ،لا من يعمل ولا كيف يعمل ولا حتى أين يبيت وماذا يأكل. مريم عويشات