شباب من مختلف الأعمار و المستويات التعليمية حتى الجامعية اتخذوا من شوارع العاصمة وأزقتها الضيقة أمكنة لترويج وعرض سلعهم، هروبا من شبح البطالة وجحيم الفقر، بعد أن يأس معظمهم في الحصول على وظيفة محترمة أو على الأقل عملا قارا يغنيهم عناء مطاردات الشرطة التي تلاحقهم يوميا في مشهد يشبه إلى حد بعيد لعبة القط والفار. تجار الأرصفة ولعبة الكر والفر... كانت البداية من احد الأزقة بشارع حسيبة بن بوعلي ، هم بضعة شباب يقف كل منهم أمام معروضاته التي اختلفت ما بين النظارات الشمسية والساعات وبعض المطاريات ، ومواد التجميل النسائية، حيث استحوذوا على كل الرصيف تقريبا ولم يعد يتسع حتى للراجلين، وفي غفلة مني لم أجد لهم أثرا فالكل فر هاربا إلى الأزقة الضيقة، وحاملا بعضا من بضاعته بعد أن تخلى عن معظمها -كل ذلك وقع في رمشة عين- ، فرجال الشرطة قد حلوا ضيوفا على المكان والويل لمن تخلف عن الفرار لان مصير بضاعته هو الحجز للحجز لا محالة. هذا المشهد بقدر ما كان مسليا كان مؤثرا للغاية وهنا يطرح التساؤل حول سبب توجه العشرات من الشباب نحو السوق الموازية أو السوداء. في ساحة الشهداء كما في بومعطي وفي أزقة العاصمة الشهيرة كالعربي بن مهيدي وحسيبة بن بوعلي هي اليوم تشبه إلى حد كبير الأسواق الشعبية الفوضوية، فلا مجال للسرعة فيها لان الشارع الذي لا يتعدى طوله بضعة أمتار قد يستغرق ساعة كاملة من الزمن للمرور عبره جراء الازدحام الذي يسببه التجار الموازيين أو "البز ناسية". رفيق واحد ممن لجؤوا إلى "التبزنيس" والذي كان منهمكا في ترتيب بعض القمصان والسراويل فوق كيس بلاستيكي وعلى الرصيف المؤدي إلى ساحة الشهداء، حيث اخبرنا بأنه اشتراها من احد بائعي الجملة ليعيد بيعها مقابل هامش ربح مقبول، ليضيف قائلا " لو احصل على وظيفة أو اظفر بمحل تجاري لكفيت نفسي عناء هذه التجارة التي لا نجني منها سوى الإرهاق والتعب النفسي بسبب خوفنا الدائم من حجز سلعنا من طرف رجال الشرطة ، فنحن نتجول يوميا بين شوارع العاصمة حتى نظفر بدراهم معدودة نستعين بها على حوائج الدنيا....." فرفيق مثال حي لعشرات الشباب الذين تحولوا إلى التجارة الموازية بعد أن ضاقت بهم الحال، وفقدوا الأمل في الحصول على وظيفة، والتي أصبحت حلما بعيد المنال عنهم، فالعاصمة اليوم وبتعداد سكانها الكبير هي الفضاء الرحب لاستقطاب الشباب العاطل عن العمل والباحث عن وسيلة تجنبه ذل السؤال وتمنع عنه الانحراف ومد يده إلى ما يملك خاصة و أن معظمهم يحلم بالسيارة والزواج والسفر....وهنا يستوقفنا ثلة من الشباب الذين التقينا بهم بساحة الشهداء حيث يقول خالد المتحصل على شهادة جامعية في تخصص العلوم الإدارية " الكثير من الشباب هنا اضطرتهم الظروف القاسية لتحمل أعباء الحياة فنحن لا نريد سوى الحصول على وظيفة مستقرة أو محل صغير نرتزق منه، يغنينا هذه "المزيرية" حتى نحقق أحلامنا وطموحاتنا كالزواج والسفر وغيرها من الأشياء التي يحلم بها الشباب في سننا •فنحن لا نريد أن نضيع في بؤر الضياع والانحراف، ولا نريد أن نخوض غمار "الحرقة " التي قضت على أرواح العشرات من الشباب أمثالنا في عرض البحر. ويؤكد العارفون بالوضع أن ظاهرة التجارة الموازية ببلادنا تفاقمت بعد انتهاج الحكومة في بداية التسعينات لسياسة إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني، والتحول من عهد الاشتراكية إلى الرأسمالية أو الاقتصاد الحر، حيث أدى هذا الوضع الاقتصادي الجديد إلى حل المئات من المؤسسات العمومية مما انجر عنه تسريح الآلاف من العمال، وضع أججته وزادت في تفاقمه الأوضاع الأمنية المتدهورة آنذاك، مما اضطر العديد من العاطلين عن العمل الجدد إلى شق طريقهم نحو بدائل أخرى للكسب، فوجدوا في السوق السوداء أو الموازية الحل المناسب والوسط الخصب للكسب حيث تشير الإحصائيات الأخيرة إلى أن السوق الموازية تتحكم في أكثر من 50 بالمئة من الاقتصاد الوطني، وأنها ساهمت بنسبة 17 بالمئة من تشغيل العاطلين عن العمل. وفي هذا الشأن يقول وليد في الثلاثينيات من العمر والذي وجدناه بالقرب من إحدى طاولات بيع الملابس " ورثت هذه التجارة عن والدي الذي خاض غمارها بعد أن سرح من الشركة التي كان يعمل بها، واضطررت لممارستها بعد أن تخليت عن مقاعد الدراسة في سن مبكرة لظروف معيشية قاهرة ، فهذه الطاولة هي معيلنا الوحيد والتي تحفظ كرامتنا لنكسب بها بعض المال دون الحاجة إلى هدر الوقت في البحث عن منصب عمل يطول الأمد في الحصول عليه، ونكسب منها بعض المال خاصة وأننا عائلة متكونة من خمسة أبناء ... وفي المقابل يرى التجار الرسميين بان "البزناسية" التي تعد فئة الشباب الغالبة عليهم قد خلقوا لهم مشاكل تجارية كبيرة ، وهو ما يؤكده احد تجار بيع العطور بضواحي القصبة، والذي يقول بأنهم وجدوا أنفسهم في منافسة غير شرعية مع تجار الأرصفة الذين يصطفون بمحاذاة محلاتهم كل صباح ويمارسون نفس نشاطاتهم التجارية من دون أن يدفعوا أية ضرائب أو رسوم على أنشطتهم التجارية غير الشرعية، وهو ما تسبب يضيف في إفلاس العديد من التجار الذين اضطروا إلى غلق محلاتهم التجارية مكرهين، والتي لم تنفع معها شكاوي التجار العديدة لمختلف المصالح المختصة، والتي عادة ما تستنجد برجال الشرطة الذين يجدون أنفسهم في لعبة كر وفر مع هؤلاء الشباب الذين ألفوا رجال الشرطة وألفوهم. الغاية تبرر الوسيلة... والوضع نفسه يتكرر ببلفور بالحراش هذا الفضاء الكبير لبيع مختلف أنواع الهواتف النقالة لم يعد بمنأى عن مثل هذه التجارة الموازية حيث تصطف العشرات من طاولات بيع الهواتف النقالة وبمختلف اكسسواراتها وبأثمان زهيدة بالقرب من المحلات التجارية المتخصصة في مثل هذا النشاط التجاري مما خلق فوضى كبيرة بالمكان وكثرت المشاكل بين الطرفين بسبب الخسائر الكبيرة التي أصبح يتكبدها أصحاب المحلات التجارية وبعيدا عن سوق الهواتف النقالة كانت الوجهة نحو "السكوار" أشهر الأسواق السوداء للعملة الصعبة على الإطلاق، لأنه أصبح بورصة حقيقية لتصريف العملة وطريقا سهلا للربح لكن بعيدا عن الرقابة ولجه العديد من الشباب الذين وجدوا في تصريف العملة الصعبة أفضل طريق للربح، وغير بعيد عن مشاهد اليورو والدولار بالسكوار وعلى مرمى حجر من تمثال الأمير عبد القادر توسعت السوق الموازية للذهب ولم تعد تشمل فقط النساء أو "الدلالات" بل اقتحم طقوس هذه المهنة أيضا الشباب ممن التمسوا فيها هامشا من الربح الذي لا توفره باقي الأنشطة التجارية الموازية الأخرى، فهم لا يأبهون إن وضعوا بعض الخواتم في أصابعهم وعشرات القلائد على أعناقهم لان الغاية تبرر الوسيلة المهم برأيهم "الحصول على المال بأية طريقة" . تعددت الأسواق السوداء والهدف واحد فالبحث عن المال هو الغاية المتفق عليها من قبل هؤلاء الشباب، غير أن البعض يجد فيها مصدر رزقه في حين يرى الآخرون فيها فضاء رحبا للكسب السريع، وبين هذا وذاك لابد من تصحيح الأوضاع والبحث عن الأسباب التي أدت إلى انتشار هذه الأسواق الموازية كالفطريات، وبعبارة أخرى لابد من إعادة النظر في سياسات التشغيل ببلادنا.