تبدأ اليوم الخميس (11 يناير/ كانون الثاني) محكمة العدل الدولية عقد أولى جلساتها العلنية في دعوى رفعتها جنوب أفريقيا تطلب فيها محاكمة إسرائيل بتهمة ارتكاب إبادة جماعية في عدوانها المستمرّ على غزة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وتطالب فيها بإصدار أمر عاجل يعلن أن إسرائيل تنتهك التزاماتها بموجب "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية" لعام 1948. وفي انتظار قرار المحكمة التي يأمل الجميع أن يُنصف الفلسطينيين، ويعيد ثقتهم بالمجتمع الدولي وبالعدالة الدولية، فإن ما لا يمكن استيعابُه لماذا لم تبادر من قبلُ أيّ من الدول العربية للتقدّم بمثل هذه الدعوى، وانتظار حتى يبادر بلد نيلسون مانديلا كي تلتحق به دول عربية، ربما رفعاً للحرج عن دول عربية فضّل أغلبها طوال الأشهر الثلاثة الماضية موقف المتفرّج مع استثناءات؟ ظل المجتمع الدولي ثلاثة أشهر يتابع الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في ما يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية التي تتكشّف آثارها يومياً في غزّة، وتحرّكت دول عدة بقطع علاقاتها مع إسرائيل، أو على الأقل تجميدها واستدعاء سفرائها لدى الكيان الصهيوني، فيما التزمت دول عربية كثيرة "مؤثرة" الصمت المريب، بما فيها دولٌ تصنف نفسها "ممانعة"، كانت تزايد بخطاباتها في محاربة العدو الصهيوني وانكشف تخاذلها، بل وخوفها عندما حان وقت الجد، وأخرى التحقت بقطار التطبيع، وكانت تعد شعوبها بأن تطبيعها سيجعلها قادرة على خدمة القضية الفلسطينية من باب الاقتراب من إسرائيل وتبادل المصالح معها، فانكفأت على نفسها وهي تراقب من بعيد المجازر التي ترتكبها شريكتها في "السلام الإبراهيمي" إسرائيل! أمام شجاعة موقف جنوب أفريقيا يقف المواطن العربي عاجزاً عن استيعاب كل هذا الصمت المريب لحكومات وأنظمة دوله طوال ثلاثة أشهر ونيف أمام حجم الجرائم التي ترتكبها إسرائيل يومياً وعلى الهواء مباشرة، والتي ذهب ضحيتها أكثر من 80 ألف فلسطيني من الشهداء والجرحى، 70% منهم من الأطفال والنساء، وأمام كل هذا الدمار الهائل الذي تعرّضت له مدن القطاع، وتهجير نحو مليوني فلسطيني من ديارهم وحرمانهم من الماء الصالح للشرب ومن الغذاء والدواء والتدفئة، وقصف المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس وتدميرها، وأمام اعتقال آلاف الفلسطينيين وتعريضهم للإهانة بنزع ملابسهم وتعذيبهم ونقلهم إلى معسكرات اعتقال غير قانونية في صحراء النقب، أو فقط اقتيادهم نحو أماكن مجهولة، وأمام كل التصريحات العلنية، وعلى لسان كبار مسؤولي الكيان الصهيوني، التي تجرّد الفلسطينيين من إنسانيتهم وتتوعّدهم بالإبادة والتجويع وتشبههم بالحيوانات، وكلها بمثابة أدلّة قاطعة على الإصرار على ارتكاب جرائم إبادة جماعية، كما يعرّفها القانون الدولي. كل واحد من هذه الأفعال يشكّل في حد ذاته دليلاً قاطعاً على ارتكاب جريمة ترقى إلى أن تصنّف من أفعال الإبادة الجماعية، كما نصّت عليها "اتفاقية منع الإبادة الجماعية"، التي تعرّف هذه الأفعال بأنها "جريمة يدينها العالم المتمدّن"، وتفسّرها كونها تعني "أياً من الأفعال التالية، المرتكبة بقصد التدمير الكلّي أو الجزئي لجماعةٍ قوميةٍ أو إثنيةٍ أو عنصريةٍ أو دينية، بصفتها هذه: قتل أعضاء من الجماعة، أو إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة، أو إخضاع الجماعة، عمداً، لظروفٍ معيشيةٍ يُراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً، أو فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة، أو نقل أطفالٍ من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى". تنطبق كل هذه الأفعال حرفياً على الوضع في غزّة، وعلى الجرائم التي ترتكبها إسرائيل يومياً داخل القطاع، وعلى التصريحات والإجراءات والقرارات الصادرة عن كبار مسؤوليها. وأي طالب حقوق مبتدئ، يحتكم إلى ضميره، لن يجادل في مدى تطابق الجرائم التي ترتكبها إسرائيل مع الأفعال التي تعاقب عليها "اتفاقية منع الإبادة الجماعية"، فهل كانت كل الأنظمة العربية وجامعتها العربية وهياكلها البيروقراطية الكثيرة عاجزة عن صياغة مذكّرة دعوى بكل هذه الجرائم وتقديمها أمام محكمة العدل الدولية؟ لا يتعلق الأمر بنقص في الإمكانات ولا بعجز في الكفاءات، وإنما بما هو أكبر، أي الإرادة السياسية التي تفتقدها أغلب الأنظمة والحكومات العربية التي ألفت على مصادرة إرادة شعوبها، وقمعها من أجل أن تستمرّ في الحكم، وجاءت الحرب العدوانية على غزّة بكل مآسيها وآلامها لتسقط آخر أوراق التوت عن هذه الأنظمة المتخاذلة العاجزة والمتواطئة. وفي انتظار القرار لأعلى هيئة قضائية دولية، لا يمكننا إلا أن ننوه بمبادرة حكومة جنوب أفريقيا الشجاعة، التي قرّرت في لحظة تاريخية فارقة الانتصار للعدل والحقّ على حساب كل المصالح والحسابات مهما كبرت أو صغرت، غير مكترثةٍ بكل الانعكاسات التي سوف تترتب على موقفها مستقبلاً، لأن الكيان الصهيوني وأذرعه الطويلة في جميع أنحاء العالم لن تغفر لجنوب أفريقيا خطوتها هذه. ويبقى الأمل الكبير في أن تنتصر العدالة الدولية للحقّ، لأنها اليوم أمام اختبارٍ حاسم وتحدٍّ كبير لإثبات نزاهتها ومصداقيّتها، حتى لا تتحوّل إلى مجرّد أداة سياسية في أيدي الدول العظمى تطبّق فقط على الفقراء، وعلى من ينازعون الغرب مصالحه ونفوذه. العدالة الدولية اليوم أمام مفترقٍ طرقٍ كبير، إما أن تنتصر للحق أو أن تضرّ بنزاهة ولايتها وبمصداقيّتها بل وبشرعيتها. أما قوة عدالة القضية الفلسطينية فهي التي ستجعلها تنتصر في النهاية، طال الزمان أم قصر، رغم أنف كل المتخاذلين والمتواطئين والمتآمرين. العربي الجديد