قضيت الأسبوع الماضي في دراسة ردود فعل العرب البريطانيين وتعليقاتهم على أهم قضية تثار في بريطانيا اليوم: الاستفتاء على البقاء في الاتحاد الأوروبي أم لا. نظرت من زاويتين: استيعاب العرب البريطانيين للديمقراطية كبيئة متكاملة وطريقة حياة؛ ومدى تفهمهم لثقافة المجتمع الذي يعيشون فيه. ذكرت الأسبوع الماضي السؤال الذي طرحه ابن صديقنا على الأستاذ الصحافي الكبير عما إذا كان يعرف ممثله فيما يعرف بالبرلمان الأوروبي وآليات عمله؟ أضفت إلى سؤال الولد، بضع كلمات عن الديمقراطية والانتخابات والتمثيل النيابي. أسئلة يعرف إجابتها تلاميذ المدارس الابتدائية البريطانيون. الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي من مصريين وعرب، يعطون الانطباع بأنهم صفوة المثقفين. تعليقاتهم على ما ترسله (أفكار تطرحها بنفسك، أو تحليل أعجبك في فقرة إخبارية أو مطبوعة، أو حتى خبر تشاركه على المواقع) تتسم بالتعالي، وكأنهم حملة الدكتوراه وأنت وصاحب التعليق من الأميين البسطاء. لذا اخترت وسائل التواصل الاجتماعي لطرح السؤال المعدل على العرب البريطانيين، الذين يهاجمون وينتقدون ويسفهون المشاركات المتعلقة بداعمي استقلال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي. في مشاركاتي على وسائل التواصل الاجتماعي تجاهلت مؤقتًا الأسباب (التي تثير حماس الراغبين في ترك الاتحاد الأوروبي)، المتعلقة بالاقتصاد والتجارة والهجرة، وركزت على سبب واحد: غياب الديمقراطية من منظومة الاتحاد الأوروبي. يذكر القراء الأسبوع الماضي أنني شرحت تركيبة الاتحاد الأوروبي والمفوضية التي تصدر القوانين المؤثرة (غالبًا سلبيًا) على حياة البريطانيين. المفوضية غير منتخبة وغير خاضعة للمحاسبة، ولا يمكن للناخب البريطاني إخراجها من الحكم مثلما تمكنه ديمقراطيته العريقة من فصل حكومته من عملها في صناديق الاقتراع. الممارسة في بريطانيا لقرون طويلة أن البرلمان المنتخب يصوغ القوانين بناء على طلب وحاجات الناخب، وواجب الحكومة المنتخبة كهيئة تنفيذية وضع القوانين في إطار التطبيق، عبر مؤسسات ثابتة، موظفوها خدم التاج أو الدولة civil servants مثل إدارات الصحة والتعليم والبوليس وهيئات الأمن والجيش. في حال الاتحاد الأوروبي يحدث العكس. المفوضية (التي تساوي خدم الدولة) ولم ينتخبها أحد تصدر قوانين (بلا أي طلب من دافع الضرائب أو المواطن في الدول الأعضاء) ثم ترسل ببعض القوانين (التي عليها خلاف أو اعتراضات) وليس كلها إلى البرلمان الأوروبي لمناقشتها و«اقتراح» تعديلات عليها. والبرلمان لا يرفضها. أي عكس الديمقراطية البريطانية. بل ولا توجد آلية لشطب أو إيقاف العمل بقانون أصدرته المفوضية، كما هو الحال في وستمنستر، الذي يلغي قوانين لم تعد صالحة للعصر. في حالة الديمقراطية البريطانية، إذا ارتكبت مفصليات الجهاز التنفيذي من خدم التاج خطأ (كالبوليس أو مديرية التعليم مثلا) تتحمل الحكومة التنفيذية المنتخبة المسؤولية، ويستقيل الوزير المسؤول أو يُستدعى للمثول أمام البرلمان، وبدوره يقيل رئيس المصلحة أو القسم المسؤول عن الخطأ. في التجاوزات الخطيرة تتقدم المعارضة لسحب الثقة من الحكومة فتسقطها، وتجرى الانتخابات، والكلمة الأخيرة للأمة. هل يقبل الناخب تبريرات الحكومة أم يفصلها من عملها في صناديق الاقتراع؟ الديمقراطية في أبسط صورها، التي يعرف آلياتها وتفاصيلها تلميذ الابتدائي، مثلما شرح له المعلمون والمعلمات الذين يصطحبون تلاميذ الفصل الدراسي لقضاء يوم في مجلسي العموم، وحضور الجلسات البرلمانية بدعوة من نائب الدائرة. هذه الخيارات الديمقراطية البسيطة غير متاحة في الاتحاد الأوروبي. فلا توجد آلية لمحاسبة بيروقراطي أخطأ في عمله أو تسبب في كارثة. ولا توجد فرصة أمام الناخب في بريطانيا (أو أي بلد آخر) للتقدم بمشروع قانون عبر نائب دائرته في البرلمان الأوروبي، لأنه برلمان لا يتقدم بمشاريع قوانين. ولا فرصة أمام دافع الضرائب لتعديل قانون يهدد رزقه (كقانوني الاتحاد الأوروبي برفع أسعار الطاقة في صناعة الحديد والصلب، ومنع الحكومة من دعم الصناعة التي تهدد مصنعًا بالإفلاس وخراب ثلاثين ألف بيت في جنوب إمارة ويلز). كما لا توجد فرصة أمام الناخب لاستبدال الحكومة (المفوضية الأوروبية) عبر صناديق الاقتراع (أو بأي وسيلة أخرى) كما يفعل مع حكوماته كل خمس سنوات.
فوجئت بتهرب العرب البريطانيين على «فيسبوك» وأمثاله من الإجابة عن أسئلتي. ومن حاول الإجابة كشف عن جهل شبه تام بالمعلومات عن عمل الاتحاد الأوروبي المتحمسين للبقاء فيه. بل الأفدح أنهم لا يعرفون آلية صنع القرار وعمل برلمان وستمنستر، وكيفية محاسبة الحكومة في البلد الذي يحملون جنسيته، بريطانيا، عندما طلبت منهم المقارنة بين النظامين كسبب رئيسي وراء الدعوة لترك الاتحاد الأوروبي. تفهمهم لثقافة المجتمع ليس أفضل حالا، بل يحملون – في العقل الباطن غالبًا – رواسب تجعل وعيهم إما خارج المكان أو الزمان أو الاثنين معا. بعد انتخاب الوزير في الحكومة العمالية السابقة، صادق خان، أول عمدة «مسلم» للعاصمة لندن، انهالت المكالمات من عرب ومصريين مسلمين بكلمة «مبروك العمدة المسلم»، وتكررت التهنئة على مواقع التواصل الاجتماعي. وتجيء إجابتي: «مبروك؟ هل تقيّمه كزوج لابنتك أم كموظف مسؤول عن إدارة العاصمة من نظافة الشوارع وإنارتها وأمنها إلى المواصلات وسلامة المرور؟». ويتابعك بالقول: لكن الله نصره، فلا بد أنه رجل صالح (انقسمت التعليقات بعدها، هل سينتصر بدوره للشيعة أم السنة، لكن هذا حديث آخر). وأخرج معلوماتي من «الثرموس البارد» لإفاقتهم: العمدة المسلم الصالح يا سادة اشتراكي من حزب العمال، هل درستم تفاصيل برنامجه؟ سيكون أكثر ضررًا بالعرب ومصالحهم من برنامج «الكافر» المحافظ. معظم استثمارات عرب لندن في العقار والمطاعم والمتاجر الصغيرة، والنقل والسفر. برنامج العمدة الجديد فرض ضرائب جديدة (بجانب ضريبة البلدية، وضريبة شراء العقار ثم ضريبة بيعه حسب الزيادة في القيمة) على أي عقار قيمته أكثر من مليون جنيه (أي أكثر من ثلثي عدد عقارات لندن)، مما سيجعل الاستثمار في العقار مصدر خسارة لا ربح، ويرفع من إيجارات وتكاليف إدارة متاجر العرب ومطاعمهم. كما أنه لا يريد زيادة ضريبة السيارة التي تدخل وسط لندن، بما بين 25 – 35 في المائة (مما يزيد تكاليف النقل والسفر). ليس هذا فحسب، بل يريد توسيع دائرة منطقة التحصيل لتشمل غرب وشمال غربي لندن، حيث توجد الكثافة الأكبر من العرب اللندنيين مساكن وأعمالا وتجارة. وما زلت أبحث أسباب عدم دراسة العرب لبرنامج مرشح لمنصب خطير، وتأثيره على مصالحهم عندما منحوه أصواتهم «كمسلم صالح»؛ أو تجاهلهم سلبيات الاتحاد الأوروبي كغياب الديمقراطية، هل لأنها أمور «تافهة»، مقارنة ب«الوحدة» الجغرافية بين الجيران بوقعها «الإيجابي» الذي زرعته شعارات الستينات في العقل الباطن للعرب؟