أُتيحت لي فرصة مميّزة كي ألتقي بالوجه الإعلامي المتميز "حياة بوخلط"، كان هذا اللّقاء في جامعة المسيلة محمد بوضياف، في حفل عرض مناقشة أطروحتها لنيل درجة دكتوراه العلوم في الأدب العربي، الموسومة ب " شعرية النص بين جدلية والإبداع والتلقي "شعر نزار قباني أنموذجا"، هذا اللّقاء أتاح لي فرصة لحديث ممتع مع أستاذتي الرائعة والخلوقة حول قلمها وفكرها الأدبي، ممّا عمّق فكرتي عن هذا الإبداع الذي يصلح أن يكون أنموذجاً للشباب العربيّ الذي يعيش قهراً في العصر الحديث، تحت تراكم عملاق من القهريّات والتّحديات والمؤامرات والعواصف العاتية التي عصفت بأحلام الكثيرين، وحوّلت حياة بعضهم إلى هجرات ومعاناة وفقد ومكابدة وضنك وحرمان وألم مستمر… عرفتُ أنّني أمام مبدعة توثّق ذاتها وقلمها وعلمها وموهبتها الفذة وفكرها لأجل التّاريخ ولأجل الأجيال القادمة المتمثّلة عندها في القادم من المستقبل، وقد قادني هذا إلى الفضول أكثر حول هذه المبدعة. بعد أن شاهدتُ المناقشة كاملة بإنعام كبير وتفكّر عميق، بدا لي أنّ هذه المناقشة المميّزة ليست – فقط – مناقشة ذكية وخاصّة ومميّزة لخصوصيّة التّجربة الابداعية خلال المساءلة العلمية تعرض فيها الباحثة بوخلط اللغة العربيّة بخليط من اللهّجة الدارجة والتّعليق على الطروحات باللّغة العربيّة الفصيحة، ،إنّما هو -في حقيقة الحال- تصوّر أكبر وأعمق لتجربة الإعلامية والكاتبة التي عاشتها في شتّى أقطار الوطن العربيّ، وفي منافيه ومهاجره القسرية أو الاختياريّة وفق قرارها الشّخصيّ أحياناً، فمن تابع تفاصيل هذه المناقشة بكلّ ما فيها من استثمارات فكرية وأدبية لمبدعة متميزة ومتمكنة من ذاتها ومكونة لنفسها بنفسها يرى فيها صورتها الشّخصيّة بتفاصيلها الذّاتيّة مع اختلاف الأسماء والصّور والأماكن لقد حضرتُ عرض هذه المناقشة – برفقة بعض الأصدقاء، والزملاء الدكاترة من قسم اللغة والأدب العربي بجامعة محمد بوضياف بالمسيلة، وكم أثارت هاته المناقشة فينا من شجون ! كما أثارت في كلّ واحد من الحضور شجونه الخاصّة ! وأطلقت شجو ذكرياته؛ لقد استدعى في نفسي وفي أنفس بعض من الحاضرين تفاصيل مشابهة من اللحظات التي مر بها، ومواقف كهاته ولحظات مهمة في محطاته الأخيرة وهو في مرحلة إنهاء مشواره البحثي، بل إنّ كثيرا من الصّور في هذه المناقشة قد استدعت صوراً مشابهة لها من ذاكرتي حيث صور لأساتذة زملاء سابقين في مناقشاتهم ضروب الشّقاء والمعاناة والتعب والإرهاق النفسي، والجهد البدني بعد أن تعبوا قسراً من أجل تحقيق حلم الدكتوراه . هذه المناقشة استدعت الكثير ممّا يمكن أن يستدعيه في أنفس الحاضرين وفق ما قالوه صراحة وعلانيّة، وعبّروا عنه في النّقاش الطّويل والمعمّق الذي أُثير مع الوجه الاعلامي المعروف في إذاعة الحضنة في جلسة حواريّة خاصّة على هامش عرض أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه في الأدب العربي، وبذلك لي أن أقول إنّ الدكتورة حياة بوخلط تنطلق من حساسيّة ذاتيّة وصولاً إلى كونيّة التّجربة الإنسانيّة إذا ما تشابهت ظروفها ومعطياتها، ويبدو أنّها تصدر من قناعة ناضجة مفادها أنّ الإنطلاق إلى البروز والأضواء لا يكون إلاّ من الإغراق في الذّاتية، وخير دليل على ذلك أنّ كلّ الذين أبدعوا في الفنون في كلّ مكان وزمان إنّما انطلقوا من الإغراق في ذاتياتهم ومحلياتهم، ليشكلوا منها دروباً رحبة نحو التميز، والذين نسميّهم متميّزي الإبداع هم في الحقيقة محليون حدّ النّخاع، فالإعلامية حياة بوخلط في مناقشتها لأطروحتها " شعرية النص بين جدلية الإبداع والتلقي شعر نزار قباني أنموذجا" الذي قدّمت فيها رؤيتها لتجربة الشّاعر السوريّ عبر ذاكرة أعماله، إنّما كانت تفكّر في مشروع إبداعيّ إعلاميّ عملاق يوثّق لحقبة كاملة من حياة الشّاعر السوريّ، ولي أن أقول بثقة كبيرة إنّها قد نجحت في ذلك؛ فقد استطاعت أن تقف بنا جميعاً على حقيقة مقدّسة هي "لا يمكنكَ تشكيل مستقبلكَ لو كنتَ تجهل ماضيكَ"، إذن هي تقدّم هذه الأطروحة العلمية بغية أن تكون إطلالة له ولكلّ سوري وعربي على المستقبل، لاستشراف الخطوات الصحيحة فيه، فلا يكون بذلك مجرّد ناقل لحدث أو مؤرّخ له، يحدّثهم بقصصه البائدة، وبأمجاد شاعره، ويرثي أحواله، وينتهي الهدف بانتهاء هذا السّرد. لي أن أقول إنّ حياة تلك المنارة المتميّزة التي سخّرت ذوقها وإبداعها لأجل محبيها وكل من عرفوها وتابعوها عبر الإذاعة الجهوية للحضنة بالمسيلة أرادت أن تقول بملء فيها:" علينا أن نأخذ العبرة من هذا التّاريخ، لنعبر إلى المستقبل، ونستشرف القادم كما يليق بنا وبإبداعنا، فالماضي يحمل العبرة، ولا فائدة من عَبْرة ليس فيها عِبرة". المميز في هذه الأطروحة – إن جاز التّعبير- أنّها تقدّم نمطاً جديداً وجريئاً ودؤوباً من الرّؤية الإنسانيّة- الإبداعية التي تعلن صراحة بزوغها من الذّاتيّة والتّجربة المعيشة انتصاراً للوصول إلى الحقيقيّة ، إنّها نوع خاص من الفكريّة الجميلة التي تجرّد الذّات للوصول إلى التميز من منطلق أنّ الذّات جزء من المكوّن الأكبر للكون، وأنّ معرفة الذّات هي الطّريق إلى الشهرة، ولذلك لم تبحث الدكتورة بوخلط عن الإجابات خارج عوالمها،بل غاصت فيها بعمق لتبحث عن الإجابات الشّخصيّة والعامّة،بعد أن استطاعت أن تستثمر فكرها الجاد المتديّن الذي كان أكبر من أيّ انغلاق ،فعلّم أسرتها الحريّة ، وترك الخيارات مفتوحة أمام أبنائها جميعاً بمساواة وإيمان عميق بحقّهم بالاختيار والانتقاء واتّخاذ الدّروب التي يريدونها إنّها تسألنا كيف تغيّرت المعطيات؟ وكيف عاشت أسرتها؟ وتفتح الأسئلة على التّأويلات جميعها ، وتترك لنا أن نصيغ الإجابات في إزاء الظّروف المشابهة التي هاجمتها على اختلاف أشكال معاناتها،وحدود ظروفها وتحدّياتها وانكساراتها.إنها تطرح الأسئلة المضنية، وتترك لنا أن نبحث عن الإجابات، أو أن تبحث هي عنّا عندها تعود الإعلامية المتألقة إلى الماضي لتستحضره ،وقد عرضت هذه الأطروحة في خمس دوائر ،أيّ خمس فصول كوّنت أطروحتها برمتها ؛إذ تبدأ بسرد مدخل ومقدمة ثم حديث عن الشعرية ليعقبها الحديث عن النص ودوره في الأدبية الإبداعية. وفي الفصول الأخرى تناولت مفهوم الإبداع والتلقي والجدلية القائمة بينهما وحاولت توضيح الفرق بينهما،وخاتمة الأطروحة تقوم على ما توصلت إليه الباحثة، وهي نتائج مرهونة بوثائق نادرة من أرشيف الشاعر الخاص ، وممّا حصّلته من قراءات نصية ونقدية وأرشيفيّة حصّلتها من شتّى المصادر، والمراجع وقد استدعت المبدعة في هذه المناقشة قدراتها الإجرائية النقدية والذوقية التي تزخر بها ذخيرتها وموسوعتها الفكرية العملاقة والذّكيّة، ورؤيتها الخاصّة فيها كي تقدّم هذه الدراسة في شكلها الجاد وعلى الرّغم من أنّ المناقشة التي امتدّت ل ثلاث ساعات من العرض إلاّ أنّها كانت مركّزة في محورها الأساسيّ، ولم تعلق في التّشتّت والضّياع والتّكرار والإستطراد الذي لا طائل منه ، وبذلك استطاعت أن تكون انتقائيّة في التّفاصيل هروباً من الوقوع في شرك الأحداث الكثيرة والشّخوص المستدعية في الأطروحه دون قيمة فنيّة أو تاريخيّة لوجودها،على الرّغم من قيمتها في حياة الشاعر أو ذاكرته أو أرشيف أسرته. البطل الحقيقيّ في هذا العمل هو الزّمن والباحثة ومعاناتها طيلة قرائتها بين نصوص الشاعر والإجراءات المعيارية التي قامت بها على نصوصه في تقاطع تاريخيّ وجغرافيّ وإنساني واستدعاء كثير من الوقائع والحقائق والمعطيات في مساحة واحدة لأجل إعادة النّظر في الماضي،والخروج بتصوّر جديد للدّرب المستقبليّ المأمول أو المنشود أو المتوقّع أو تفسير المفترض منه. وفي الأطروحة أجناس مختلفة من التّقنيات والفنون الذوقية ،ففيها مقابلات حيّة ،كما يتضمّن إرشيفاً عملاقاً من النصوص، ، الإعترافات التّاريخيّة،أو البوح الكاشف للحقائق دون تزوير أو تفسير ،وقد غلّف هذا البوح كلّه،وهذا السّرد الصّادق الشّفيف بصوتها الرّاوي الذي سدر في أنفس السامعين بكلّ ما فيه من حنين وشجن ووجع وفقد،وهو صوت يحرّك القلب والمشاعر في جلّ تفاصيل المناقشة ،أو في غيرها من المشاهد الإنسانيّة الرّقيقة التي تعجّ الأطروحة بها. يبقى القول إنّ هذا العمل هو منجز علميّ ضخم أخذت الباحثة على عاتقها أن تنجزه وحدها دون أيّ مساعدة خارجيّة ،وهو عمل يحتاج في حقيقة الأمر إلى جهود مؤسّسية عملاقة،ولكن المتميزة الإعلامية بوخلط استطاعت أن تتفوّق على نفسها على امتداد عقود من العمل في هذه الأطروحة إلى جانب عملها في مشاريعها الأخرى على امتداد مسيرتها الإعلامية،كما استطاعت أن تنتصر على ذاتها،وأن تنجز هذا العمل الفريد ،إلى جانب أنّه عرض باحتفاء كبير في مناقشة جادة وقيّمة وافتكّت الإشادة والإعتراف من كل الحاضرين وخاصة اللّجنة المناقشة ولمن لا يعرف حياة بوخلط فأقدّمها للقارئ باقتضاب، فأقول: جياة بوخلط وجه إعلامي مشبع بالطموح والروح الإنسانية عشقت الميكرفون فأبدعت ضمن طاقم إذاعة المسيلة الجهوية التي اكتسبت معها خبرة عززت من خلالها ثقتها في نفسها فراحت تتألق في سماء الإبداع .
أستاذة جامعية بقسم اللغة والأدب العربي بكلية الآداب بجامعة محمد بوضياف بالمسيلة وإعلامية متميزة بإذاعة الحضنة الجهوية بولاية المسيلة.