على هذا المعنى العظيم ربّى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم، وقصة ربعي بن عامر مع رستم شاهدة على المعنى السامي والهدف النبيل، فقد طلب رستم من سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن يبعث إليه رسولاً يفاوضه قبل أن يبدأ القتال في معركة القادسية، فأرسل إليه المغيرة بن شعبة، فكان مما قاله لرستم: "إنّا ليس طلبُنا الدنيا، وإنما همنا وطلبنا الآخرة"، ثم بعث إليه سعد رسولاً آخر، وهو ربعي بن عامر، فدخل عليه، وقد زينوا مجلسه بالنمارق (الوسائد) المذهَّبة والحرير، وأظهروا اليواقيت واللآلئ الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب.. فدخل ربعي بثياب صفيقة وسيف وترس وفرَس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه، فقالوا له: ضع سلاحك، فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلاّ رجعت، فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرقها، وكأنه يقول لهم عمليا: "دنياكم هذه لا تغرّنا فضلا عن أن تشغلنا"، فقالوا له: ما جاء بكم؟ قال: "الله ابتعثنا لنُخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سِعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه، لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضي إلى موعود الله"، قالوا: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبَى، والظفر لمن بقي. سبحان الله.. إنه وهو فقير لا يكاد يجد من الدنيا شيئا يتكلم عن غايته في هذه الدنيا ومنها إخراج الناس من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة! لقد كانت الدنيا إن أصابوها فهي في أيديهم وليست في قلوبهم، ولهذا لما طلب منهم النفقة بذلوا غير خائفين من الفقر أو القلة، فقد جاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله، وجاء الصديق رضي الله عنه بماله كله، وجهز عثمان رضي الله عنه جيش العسرة.