جاءت الشّريعة الإسلامية لتحقّق الحياة الطيّبة للبشرية، فوضعت الأسس والضّوابط لتضمن لهم هذه الحياة، وبينت ما فيه مصلحة وحثّت عليه وأوجبته، وبيّنَت ما فيه ضرر ومنعته. ولقد اهتمّت الشّريعة الإسلامية بالمال فاعتبرته من الضّروريات، ففصلت فيه وبيّنت وأمرت النّاس أن يأخذوا بحلاله ويبتعدوا عن حرامه، كلّ هذا حتّى تستقيم حياتهم ومعايشهم. ممّا ركّزت عليه الشّريعة قضية الكسب الحلال الّذي يحلّه الشّرع، وقد تعدّدت الآيات والأحاديث في بيانه، قال الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الجمعة:10، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} البقرة:168، {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} المائدة:88، {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ} يونس:59، {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} النّحل:114. كما ضرب لنا القرآن أمثلة حيّة من قصص الأنبياء وذكر دورهم في العمل والكسب المشروع، فهذا نوح عليه السّلام كان يعمل بالنّجارة فصنع السّفينة الّذي نجّاه الله وقومه بها، قال تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ، قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} هود:38. وهذا نبي الله داود عليه السّلام كان حدّادًا ينصع الدّروع وغيرها، قال تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} سبأ:10-11، وهذا نبي الله موسى عليه السّلام عمل في رعي الغنم، قال الله عزّ وجلّ: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} القصص:27، وغيرها من الآيات. وجاءت الأحاديث لتؤكّد هذا المعنى في حسن التّوجيه للكسب الطيّب المشروع ومنها قول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: "إنَّ الله طيبٌ لا يقبل إلّا طيبًا، وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمَرَ به المُرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ثمّ ذكر الرّجل يُطيل السّفر أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السّماء: يا ربّ يا ربّ، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذّي بالحرام، فأنَّى يُستجاب له" رواه مسلم. وقال صلّى الله عليه وسلّم: "ما أكل أحد طعامًا قطّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإنّ نبيّ الله داود عليه السّلام كان يأكل من عمل يده" رواه البخاري. إنّ الإنسان في هذه الحياة لا غنى له عن المال الّذي يقوم بتغذية بدنه، وعفّته عن سؤال غيره، وقد جعل الله وجوهًا كثيرة للتكسّب الحلال فأباح كلّ كسب ليس فيه اعتداء، ولا ظلم، ولا ضرر على الغير، وأباح أنواعًا من الاكتساب حتّى يجمَع الإنسان من المال ما يكون كافيًا له في قوّتِه، وقوت مَن يعوله. لقد أصبح همُّ الكثير من النّاس اليوم جمع المال من أيّ مصدر، سواء أكان ذلك المال من طريق حلال، أو من أيّ طريق من الطّرائق المحرّمة، وأصبح الكثير من النّاس يرى أنّ المال يكون حلالًا متى حلّ في يده ومهما كان ذلك المكسب خبيثًا فإنّه لا يراه إلّا حلالًا، ما دام قد حصل عليه وأمسك به في يده. والمسلم في معاملاته المالية ينبغي أن يَسير على ضوء الإسلام وعلى ضوء ما حدَّده الله، وبيَّنه رسوله صلّى الله عليه وسلّم الّذي قال في الحديث: "كلّ جسد نبت من سُحت فالنّار أولى به". والواجب على المسلم ألّا يدخل في أيّ معاملة حتّى يعرف حكمها الشّرعي، وحتّى لا يدخل في معاملات محرّمة ذات كسب خبيث؛ ممّا يؤدّي بصاحبه إلى النّار! وللكسب الحلال ثمار وآثار على العبد منها: أنّه يُنير القلب ويشرح الصّدر ويورث الطّمأنينة والسّكينة والخشية من الله، ويعين الجوارح على العبادة والطّاعة. وهو سبب لقبول العمل الصّالح، والبركة في الرِّزق والعمر والذّرية، حيث قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "والّذى نفس محمّدٍ بيده إنّ العبد ليقذف اللُّقمة الحرام في جوفه ما يُتقبّل منه عملٌ أربعين صباحًا". وهو سبب لرِضا الله عزّ وجلّ ولاستجابة الدّعاء، كما قال صلّى الله عليه وسلّم للصّحابي الجليل سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه: "يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدّعوة". وإنّ الفقه في هذا الباب ممّا تمسّ إليه الحاجة ولاسيما في هذا الزّمان الّذي اختلط فيه الحابل والنابل والتبست فيه كثير من الأمور على النّاس، والواجب على المسلم أن يطلب دائمًا وأبدًا البراءة لدينه وعرضه ليلقَى الله عزّ وجلّ بحالة طيّبة وببعد عن المحرّمات وأسبابها ووسائلها، روى الإمام أحمد في مسنده عن وابصة بن معبد رضي الله عنه قال: أتيتُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: "جئتَ تسأل عن البِرّ؟" قلتُ: نعم يا رسول الله، قال: "استفتِ قلبك، البِرّ ما اطمأنت إليه النّفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النّفس وتردَّد في الصّدر وإن أفتاك النّاس وأفتوك".