نشرت : المصدر موقع "الشروق" الجزائري السبت 29 سبتمبر 2018 11:12 ارتبط اسم منطقة تكوت بباتنة خلال السنوات الأخيرة بما يصطلح عليه ب"مهنة الموت"، وهذا بسبب لجوء الكثير من أبنائها إلى ممارسة حرفة صقل الحجارة، وهو الأمر الذي كلفهم غاليا، بدليل وفاة أكثر من 180 ضحية حسب أرقام غير رسمية، بسبب معاناتهم من داء السيليكوز الذي بات لا يرحم كل من يفكر في ولوج هذه المهنة "القاتلة". وصل الكثير إلى قناعة بأن شبان تكوت بباتنة يبدعون في تشييد قصور فخمة يتباهى بها الأثرياء ورجال الأعمال، لكنهم سرعان ما يحجزون لأنفسهم أماكن في مختلف مقابر منطقة تكوت، تسبقها متاعب صحية مريرة تؤثر بشكل مباشر على جهازهم التنفسي وتقضي على أجسادهم التي لا تقوى على الحركة حين يبلغ المرض درجة متقدمة. وعلى ضوء حجم وجحيم الكارثة التي تخيم على منطقة تكوت، كان لزاما على "الشروق" القيام بزيارة ميدانية للوقوف على حالة الشبان المصابين بهذا المرض، وردود فعل أهاليهم في عديد المناطق التي عرفت أرقاما مرعبة من المرضى والوفيات، وفي مقدمة ذلك قرية شناورة، بدليل أن نصف ضحايا مهنة الموت ينتمون إلى هذه المنطقة، دون نسيان قرية تاغيت وبلدية إينوغيسن ومختلف أحياء ومداشر تكوت التي تعيش على الهامش بسبب البعد والعزلة، حتى أن الناس قديما كانوا يرددون عبارة "تكوت هز عوينك لتموت"، في الوقت الذي يظهر أن المؤسسة الاستشفائية العمومية 60 سريرا التي افتتحت هذه الصائفة بتكوت لا تزال بعيدة عن متطلبات المرضى وسكان المنطقة على حد سواء، في ظل افتقارها إلى التعداد البشري اللازم والطاقم الطبي القادر على متابعة حالة مرضى السيليكوز بالخصوص. وتزامنت زيارتنا إلى مدينة تكوت مع تنظيم السوق الأسبوعية، ما سمح لنا بالولوج في أوساط الوافدين إلى قلب البلدية بحي "البرج"، حيث تكون المناسبة لاقتناء مختلف الحاجيات، مع تبادل أطراف الحديث حول هموم الحياة بين الأصدقاء وأبناء المنطقة في المقاهي الشعبية أو في الهواء الطلق، وفي مقدمة ذلك مشاكل مرضى السيليكوز التي تشغل بال جميع أفراد سكان تكوت وما جاورها، خاصة في ظل الضرر الصحي والمعنوي الذي ألم بالجميع منذ ظهور هذا الداء نهاية التسعينيات، قبل أن يتحوّل إلى كابوس حصد أرواح أكثر من 180 ضحية، ولا تزال القائمة مفتوحة تهدد كل من يفكر في ولوج عالم حرفة صقل الحجارة الذي يحصي تواجد أكثر من 1200 شاب من شباب المنطقة ينشطون في مختلف مناطق الوطن، على غرار باتنة وبسكرة وقسنطينة والعاصمة وغيرها. قمري أول الضحايا وداودي لن يكون الأخير وحسب بعض الإحصائيات الخاصة بوفيات حرفة صقل الحجارة، فإن أول الضحايا كان من الجهة الشرقية لقرية شناورة، ممثلا في أحمد قمري (ولد عام 1953) الذي يعد من عمداء هذه الحرفة، حيث توفي مطلع الألفية، تاركا وراءه 6 أبناء مروا بأوضاع نفسية واجتماعية صعبة، وقد أصيب الفقيد أحمد قمري بأولى ملامح هذا المرض مع نهاية التسعينيات، حين عجزت رئتاه عن النشاط بصورة طبيعية، ما جعله يطرق أبواب مستشفيات وعيادات أريس وباتنة وقسنطينة وصولا إلى الجزائر العاصمة، لكن الجهود المقدمة لم تعط أي مستجدات ملموسة، ولفظ أحمد قمرى أنفاسه في مستشفى بني مسوس بالعاصمة نهاية جانفي 2001، عن عمر يناهز 48 سنة، ليبدأ مؤشر الخطر يلوح في الأفق بعد وفاة شاطري جموعي بداية أفريل من نفس السنة عن عمر يناهز 36 سنة، ما خلف حالة استنفار، بالنظر إلى الأرقام المرعبة من الوفيات التي عرفتها السنوات الموالية، حيث وصلت عام 2009 إلى 45 ضحية، وبعد 9 سنوات من ذلك ارتفع العدد إلى أكثر من 180 ضحية افتك بها داء السيليكوز، في الوقت الذي توفي منذ مطلع هذا العام نحو 10 أشخاص جلهم في ربيع الشباب، آخرهم كان الفقيد سعيد داودي الذي توفاه الأجل مطلع شهر أوت المنصرم في مستشفى آريس، وسبقه جمال مشيخة منذ شهر ونصف شهر، وإسماعيل بلدي خلال شهر ماي رفقة عبد السلام شيببوب، وأسماء أخرى وافتها المنية خلال الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام. ما يؤكد بأن السعيد داودي وبقية الذين سبقوه لن يختموا القائمة التي لا تزال مفتوحة في ظل كثرة المرضى ومواصلة عدد كبير من الشبان نشاطهم في هذه المهنة. وعلى ضوء حديث بعض المواطنين الذين التقينا بهم في قلب تكوت، فإن عدد المرضى في تزايد، وكثيرا ما يرغمون على المكوث في منازلهم تحت وطأة الداء، بسبب تعرضهم للتيبس على مستوى الرئتين، ما يؤدي إلى صعوبة في التنفس، وهو المشهد الذي وقفنا عليه في عدة أماكن من قرى وأحياء منطقة تكوت، حيث أكد لنا بعض من تحدثوا ل"الشروق"، بأن عدد المرضى في ارتفاع، وأغلبهم يواجهون صعوبات في التنفس وفقدان الشهية، وصعوبة في الكلام لمدة طويلة، ناهيك عن عدم قدرتهم على التنقل، ما يتطلب جهدا كبيرا للذهاب إلى المستشفى عند الضرورة. أهالي الضحايا يموتون حسرة ومصابون بين التحفظ وعدم الاعتراف لم يخف أهالي المرضى قلقهم من الحالة المزرية التي يمر بها أبناؤهم من ممتهني حرفة الحجارة، والتي كانت في نظرهم الخيار الوحيد أمام ارتفاع شبح البطالة وقلة فرص العمل في منطقة تعاني العزلة والتهميش، مثلما أقدم عليه أبناء السيد الهامشي أوشن المقيم في قرية تادخت، حيث فقد ابنه موسى في العام 2007 تحت تأثير المرض تاركا وراءه أرملة وولدين، في الوقت الذي اشتغل 3 من أبنائه في هذا الجانب، والكلام ينطبق على أولياء وأقارب بقية الضحايا والمرضى الذين يتألمون في صمت. في المقابل حاولنا التقرب من بعض العينات المصابة، لكن مساعينا اعترضتها بعض العراقيل المصحوبة بموجة التحفظ، بسبب رفض أغلب المرضى ولوج الزوار إلى بيوتهم، من منطلق الحياء والحشمة وتحاشي أن ينظر إليهم الآخرون بعين الشفقة، مفضلين البقاء في غرف مغلقة بدلا من أن يكونوا في كل مرة أشبه بعرض سينمائي يكون عرضة للمشاهدة، وبعيدا عن هذا النوع من المنعزلين تحت وطأة الألم والتحفظ، فإن مرضى آخرين أكدوا لنا بأنهم لا يعترفون بما يصطلح عليه بداء السيليكوز مشيرين بأن مرضهم لا علاقة له بالحجارة بقدر ما يعود إلى متاعب صحية، ووصلت جرأة بعضهم إلى التأكيد على عودتهم إلى امتهان حرفة الحجارة من جديد فور تماثلهم إلى الشفاء، مقتنعين بأن هذا الخيار أمر حتمي في ظل عدم حيازتهم على مناصب عمل تضمن لهم لقمة العيش ولأفراد عائلتهم. شبان شناورة الأكثر تضررا ونصف الضحايا تركوا أرامل ويتامى وحسب أرقام وإحصائيات شبه رسمية تحصلت عليها "الشروق " فإن قرية شناورة تعد من المناطق الأكثر تضررا، بحكم أن نصف عدد الوفيات ينتمون إلى هذه المنطقة، ففي 2009 سجلنا نحو 21 ضحية، حين كان العدد الإجمالي للضحايا قرابة 45 شخصا، أما وقد ارتفع العدد إلى أكثر من 180 ضحية خلال هذا العام، فإن داء السيليكوز يكون قد كلف شناورة وحدها ما لا يقل عن 80 ضحية، مقابل توزع العدد الباقي بين بلدية إينوغيسن، وبقية قرى وأحياء تكوت، مثل زينون وعين البير وتيغزة وتادخت ولقصر وتكوت الدشرة وتاغيت وغيرها، كما أن الملاحظ حسب بعض الأرقام، هو أن نحو 40 من المائة من المتوفين تركوا وراءهم أرامل ويتامى من مختلف الأعمار، وحسب ذات الأرقام فإن عدد المرضى في تزايد، بسبب المخلفات السلبية للمهنة والظروف الصعبة التي يتم مزاولة مثل هذه الأنشطة، حتى أن منهم من يتنفس بأجهزة اصطناعية سلمت لهم من بعض المحسنين، حيث تكفلت البلدية بمنحها للذين وصلوا وضعية صعبة أو ميؤوس منها. الأطباء عاجزون ويحذّرون من عواقب الموت البطيء ورغم التحركات القائمة من قبل الجهات الوصية على مستوى المنطقة، على غرار جهود الجهاز الطبي ومصالح البلدية التي تعكف في كل مرة على تسهيل مهمة أرامل وأبناء الضحايا، من خلال التكفل باستخراج وثائقهم، ونقل الملفات الإدارية إلى مختلف مصالح الولاية، علاوة على تضامن المحسنين، إلا أن الأمر حسب الكثير ممن تحدثنا معهم غير كاف، أمام غياب إستراتيجية واضحة للتقليل من وقع الصدمة التي تلازم المرضى وأهاليهم، حتى أن جهود الأطباء لم تجد حلولا شافية رغم إيفاد طبيبة مختصة دورية من أريس على مر السنوات السابقة، إضافة إلى نقل المرضى الذي يستدعي وضعهم تحويلهم إلى عاصمة الولاية، إلا أن هذا الأمر غير كاف حسب التقارير التي توصل إليها الطبيب بشير رحماني الذي كان مكلفا بمتابعة مرضى الحجارة في مقر البلدية، مؤكدا ل"الشروق" أن شبان تكوت يبقون بين مطرقة الموت وسندان ممارسة المهنة، ليبقى المطلب الرئيسي حسب النتائج التي خلصوا إليها هو ضرورة الوقاية والابتعاد نهائيا عن مزاولة نشاط حرفة الحجارة، لتجنب شبح الموت البطيء الذي يهدد الكثير من المرضى الذين انساقوا إلى ممارسة الحرفة دون دراسة العواقب، خصوصا وأنّ الإصابة بمرض السيليكوز المميت ناتجة أساسا عن ترسب الغبار المنبعث من الحجارة المنقوشة للرئتين، ما يتسبب في مصاعب لعلاج هذا الداء. ويقول مختصون إنّه لا يمكن الكشف عن مرض السيليكوز إلاّ عن طريق الأشعة والمصورة الطبية، كما أنّ أعراض الداء لا تظهر إلا بعد بلوغه مراحل متطوّرة وتعقد عملية التنفس، ما يجعل الوضع خطير إذا ما وضعنا بعين الاعتبار أنّ عدد العاملين في هذه الحرفة قد يتعدى 1200 شخص، غالبيتهم يعملون لحسابهم الخاص وغير مؤمنين اجتماعيا ولا مصرح بهم، ما يجعلهم في وضعية صعبة جدا للتكفل بهم من ناحية العلاج وبأهلهم بعد الوفاة. المستشفى الجديد بعيد عن التطلعات من جانب آخر، يبدو أن المؤسسة العمومية الاستشفائية التي افتتحت شهر جويلية المنصرم لا تزال بعيدة عن التطلعات، بسبب افتقادها إلى أطباء مختصين بمقدورهم متابعة الحالة الصحية لمرضى داء السيليكوز بالخصوص، ما جعل المستشفى المذكور المشيد في قرية لقصر مجرد صورة مطابقة للمستوصف الذي يقدم الحد الأدنى للخدمات إن وجدت طبعا، ما يفرض على الكثير من المرضى التنقل إلى آريس وباتنة وبسكرة للعلاج. وفي الوقت الذي يبقى أهالي الضحية حائرين إزاء الوضع الذي وصل إليه أبناؤهم دون أن يجدوا حلولا ملموسة في هذا الشأن، إلا أن الإشكال الذي يطرحه الكثير من سكان تكوت هو مصير التوصيات التي ميزت الملتقى الوطني لضحايا حرفة الحجارة الذي نظم منذ نحو 10 سنوات، خصوصا وأن النقاط التي تم الإشارة إليها آنذاك لم تجد طريقها نحو التجسيد، ما يثير الكثير من التساؤلات حول مستقبل الوعود المقدمة للتكفل وإيجاد الحلول اللازمة، من خلال إصدار ميثاق يخص شروط ممارسة هذه المهنة، والجوانب التي يتطلب تجنبها، وغيرها من الأمور الوقائية والعلاجية التي أشار إليها الوفد الطبي، وفي هذا الجانب يقول الأستاذ نور الدين برقادي: "في سنة 2008، تم تنظيم ملتقى دولي حول داء السيليكوز بباتنة وتكوت، حيث تم إصدار دليل من إنجاز الدكتور ع. حميزي، وهو موجّه لممارسي المهنة، ولكن توصيات الملتقى بقيت حبرا على ورق دون تجسيد على أرض الواقع، خاصة ضرورة توفير الأجهزة الحديثة المستخدمة في الدول المتطوّرة في تقطيع الحجارة، ولكن إنجاز هذا المشروع الذي دعمته "أونساج" باتنة باء بالفشل، بعد عجز أصحاب المشروع عن توفير نسبة المساهمة المفروضة على أصحاب المشاريع. ويظهر أن الإشكال غير منحصر على توصيات المؤتمر الذي بات من الوعود المستهلكة، وإنما يتعلق أيضا بمصير ودور جمعيات ممتهني حرفة الحجارة "هازروث"، في ظل غياب تحركات ميدانية أملا في تحقيق مستجدات ملموسة، ما جعل حرفة صقل الحجارة تنتج جماليات من كثرة آلامها ومآسيها، بعدما حصدت أرواح أكثر من 180 شخص أغلبهم في مقتبل العمر، عدد معتبر من هؤلاء الضحايا خلفوا وراءهم أرامل ويتامى، إلى جانب وجود المئات من ممارسي هذه المهنة في قائمة الانتظار، نظرا لإصابتهم بالداء، ما جعل الوسط الفني يتحرك بدوره في السنوات الأخيرة، لطرق ناقوس الخطر ووضع الجميع في الصورة، من خلال إنتاج أغان ترثي ضحايا ومرضى داء السيليكوز، على غرار ما قام به الفنان بشير محمدي ومسعود نجاحي وماسينيسا، وأسماء أخرى، بما في ذلك الفنان صالح لونيسي الذي غنى عن السيليكوز ومات بسببه.