عياش دراجي هو إعلامي جزائري محترف مقيم في فرنسا، ورغم أنه طبيب وقادم من تخصص علمي بحت إلا أن إبداعاته الثقافية وطريقته في الكتابة جعلت منه نموذجا فريدا يختزل الكثير من المهارات المفقودة في الصحافة. اخترنا أن نطرح عليه بعض الأسئلة لنعرف رؤيته للأشياء من خارج الوطن فكان هذا الحوار. * هل صحيح يجد الإعلامي المهاجر ضالته خارج الوطن أم أن الوضع مختلف وترفضون أنتم الإعلاميون المهاجرون الاعتراف به ؟ – ضالته... ماهي ضالته ؟ هنا مربط الفرس أو مستودع السيارة – بلغة العصر – يا صديقي. فمن كان يعتقد أن منصب عمل أو وظيفة خارج الوطن هي ضالته، فقد يجدها حينما يسافر وقد تحالفه الأقدار وتثمر جهوده، ولكنه قد يغير الطريق ولا يجد ضالته، وهناك الكثيرون من هاجروا وغيروا المهنة وأجروا تعديلات على أحلامهم وطموحاتهم? سلباً أو إيجاباً. تجد أيضا من فشل حتى في تحقيق ربع أحلامه لكنه يخشى البوحَ بما وجده من مفاجآت ففضل إخفاء الحقيقة ومواصلة العمل في آفاق أوهام الهجرة على أن يعود إلى الوطن?تفاديا ًلردة أو لقول بأنه عاد بخفي حنين. ثم لا تستطيع أن تلومه على أنه فضل البقاء في المهجر حتى لو فشل أو عدل من أحلامه أو تنازل، لأنه سيقول لك إن الوطن أو بالأحرى القيّمون على الوطن لم يساعدوه في البقاء وفضلوا تشجيعه على الهجرة ليَخْلوا لهم وجه الوطن. والإعلامي المهاجر حتى وإن نجح وحقق ما حقق وصار له اسم وفِعل وأدوات مختلفة فإنه سيبقى يشعر بفراغ بين جوانحه مهما كان ومهما علا ووصل، النقص هذا اسمه الغياب عن الوطن، لاحظ أني استخدمت مفردة الغياب وليس الغربة? فالغربة هي شعارك وأنت في الخارج، أما الغياب فهور شغور الوطن منك لأنك في المهجر قد تجد أناسا كثيرين يشكلون فيما بعد مجتمعك الجديد ولكن هناك من الأهل ما لايمكن أن تشكلهم أو تجدهم في الغربة? مثل أهلك الأقربين، و"حضورك" في الوطن لا يمكنك أن تخلقه في الغربة، ولا يمكن تعويضه. فعندما تغيب عن تطورات الوطن ونمو الوطن سلباً أو إيجابا فكأنك تركت أخا صغيرا لك عمره عامين وعدت للوطن فوجدته قد تزوج? أرأيت كيف هي الفجوة كبيرة !! هذا هو الغياب الذي لا يعوض بأي حال! ولعل الضالة الوحيدة التي تليق بأن تسمى ضالة ويجدها الإعلامي المهاجر هي سقف الحريات وتعدد السقوف وتنوعها وهذا يفتح أمامه خيارات عديدة وفسحة تحليق أو غوص وإحجام. * لماذا نجد بعض الإعلاميين يغيرون مواقفهم عندما يغادرون الوطن فيتحوّلون إلى ناقمين على الوضع وقد كانوا من قبل موالين ؟ – التغير ليس عيباً هذا بشكل عام، وهناك مثل فرنسي يقول الأغبياء فقط هم الذين لا يتغيرون، ثم إن المواقف إذا كانت مغلوطة فمن الواجب تغييرها أو تعديلها وتصحيحها، وبشكل عام أيضا تغيير أو تغير المواقف ناتج عن تغير الظروف مهما كان اتجاه هذا التغير، ثم أن الثبات على شيء ليس دائما إيجابيا فقد يكون موقفك الأول مبنياً على باطل أو ضعف أو مصلحة وحينما يصبح شخص ما في حل من المصلحة وتخلص من الضعف وتبين له الأمر بوضوح ومعطيات جديدة غيَّّر موقفه ولا شيء سيء في ذلك، ثم إن هناك من يعيشون في داخل الوطن ويغيرون مواقفهم عند كل عهدة وحتى وإن تعلق الأمر بانتخابات لبلدية أو تعديل حكومي بسيط !! والمواقف التي لا تبنى على مبادىء مرشحة للتغير مع مؤشر البورصات السياسية والمصلحية دائما، أما المواقف الإعلامية المبنية على مبادئ ومعطيات فهي أكثر ثباتا ورسوخا أمام رياح الداخل أو الخارج. ثم أيضا لا نحمِّل الإعلامي المقيم أو المهاجر مسئولية فوق طاقته لكي لا نستنسخ مشاكل ما يعرف بمجاهدي الداخل ومجاهدي الخارج التي عاشها آباؤنا أيام الثورة … أما مسألة النقمة والقول بأنهم يتحوّلون إلى ناقمين فهذه أمور أعتقد نفسية أكثر منها مواقف رصينة لأن مجرد النقمة دون الإسهام في تقديم بديل أو تنوير طريق هي مشكلة نفسية وليست فكرية أو إعلامية. وربما ما يرونه هم نقداً يسمى هنا نقمة، ربما ! * في رأيك الصحافة في الجزائر محتاجة إلى المهنية أكثر أم إلى الحرية أكثر ؟ – الصحافة في الجزائر محتاجة إلى صحافة أي إلى الدفاع عن الأبجديات الأولى للممارسة الصحافية، أي معرفة ماهية الصحافة وإعادة تعريف مبادئ العمل البديهية لأن ما نراه أحيانا خاصة في كثير من القنوات التلفزيونية الخاصة هو ردح وتحريش وصبيانية هذا من ناحية الرأي والتحليل، أما من ناحية الخبر ومصداقيته ونقله فإن الصحافة في حاجة ماسة وعاجلة إلى الالتزام بمبادئ التبين والتثبت والابتعاد عن نقل الأكاذيب، فصرنا نرى صحافيين ينقلون اخبارا ويستندون إلى مواقع في شبكة الأنترنت ولا يدرون أن كثيرا من الموقع لا موقع له أصلا في الواقع الإعلامي الرصين والمحترف، هذا تخبط ومراهقة صحافية لا يليق بمن يحترم السلطة الرابعة والتسرع والتساهل دون تثبت يجعلان العمل الصحافي غير محترم من الناس لاسيما وأننا في عالم منفتح على المعلومة وبالإمكان التحقق بسهولة من صدقية الخبر وفق ما يتواتر من مصادر. أما الحرية فالحاجة إليها دائمة وماسة وحيوية وضرورية ولكن لا يعني أن تستخدمها في الشتم والقذف والتهريج أو أن يتحول الصحافي إلى مداح في الأسواق أو أداة في يد بارون من بارونات "الشكارة" وينخرط في تصفية حسابات ثم يستخدم ورقة حرية الصحافة، لأن الحرية تعني المسئولية والالتزام بالجرعة التي لا تميت بل تحيي ! * بالمقارنة هل الوضع في الجزائر سياسيا وإعلاميا سيىء إلى هذا الحد أم ثمة تسويد للوضع ؟ – كي لا أهوي مباشرة في واد سحيق من التشاؤم المذموم يمكنني الحكم على الوضع بأنه سيء? سيء جدا، إعلاميا وسياسيا، وهناك سوءان، سوء مصدره داخلي بمعنى أن الرداءة والسوء صارا منتوجين وطنيين بامتياز وهناك سوء تحمله رياح خارجية أيضا وتدفع بالوطن دفعا نحو أوضاع أسوأ، هذا لا يعني أن الباب مفتوح على مصراعيه على التشاؤم أو أن الأمر يدفعنا لطأطأة الرأس وانتظار قدوم العاصفة ثم الشروع في إحصاء الضحايا والناجين، بل التصدي أولا للسوء الداخلي من الأساس في السياسة والإعلام والاقتصاد وما أدراك ما الاقتصاد، وحينما يكون الجهاز المناعي للوطن جهازا قوياً سياسيا وإعلاميا واقتصاديا فإن الوضع سيتحسن، حتى وإن تحقق التحسن بعد عشرات السنين، المهم أن لا نسهم في التدهور وإذكاء التردي، بل ندفع بإخلاص للتخلص قدر الإمكان من السوء والرداءة ... ومسئولية الإعلاميين في النهوض وتفادي السقوط مسئولية أخلاقية وتتطلب تضحيات وإلا سنسقط في القول الشائع البائس "المهم تخطي راسي" ! * مالذي يسعدك ومالذي يحزنك عندما تتذكر الوطن ؟ – عندما أتذكر؟؟ أقول لك: ومتى نسيته حتى أتذكره ...؟ سأجيبك بطريقة أخرى، الوطن يسككنا أكثر مما نسكنه، إلا من سُلخوا سلخا من هويتهم، وهؤلاء قلة شاذة ولا يقاس عليه. الوطن يسكن المهاجر ويهاجر معه، بل أن الوطن يولد في الهجرة مرة أخرى، يولد في قلب المهاجر وعقل المهاجر وجسم المهاجر وذاكرة المهاجر ويرى في تجاعيد المهاجر، وحتى حينما يرى رؤيا، فإن أغلب رُؤاه تكون عن الوطن ... وأعود إلى بعض سؤالك لأقول: إن المفارقة أن الوطن هو من يسعدك وهو من يحزنك ... يسعدك شموخه تاريخيا ويحزنك هوان واقعه الحالي، يسعدك ثباته ويحزنك تخبطه، يسعدك تنوعه وتنوع ثرواته ويحزنك استغلال التنوع من أجل التفكيك ويحزنك عدم استغلال الثروات في موضعها البناء ... ويسعدني حينما يقرأ كلامي هذا في أرض الوطن.