لم يكن يتصور محمد، المغترب بفرنسا، أن نعمة التحاقه بالضفة الأخرى من المتوسط ستتحول إلى نقمة، خاصة في ظل المشاكل الاجتماعية التي كان يعيشها وعائلته والتي أجبرته على الإبتعاد والعيش وحيدا ظنا منه ان الغربة ستنسيه مشاكله ومعاناته، إلا ان الله شاء ان تكون حياة محمد حقلا من التجارب الى ان مات وهو في ديار المهجر وهو ما أعرب عنه إسماعيل، ابن عم محمد، الذي فتح قلبه ل السياسي ليروي لنا قصة محمد الذي مات ودفن في فرنسا، رغم وصيته بدفنه في أرض أجداده. المشاكل الاجتماعية دفعته لتحمّل الغربة كثير هم الذين فضّلوا العيش في ديار الغربة بسبب المشاكل التي يواجهونها ولعل عمي محمد، احد هؤلاء الذين قرروا ذلك ولمعرفة قصة عمي محمد، الذي مات في ديار الغربة، تقربت السياسي من إسماعيل، ابن عمه، الذي فتح لنا قلبه، ليروي قصة محمد في ديار الغربة رفقة أخيه الاكبر وعمره لا يتجاوز ال20 سنة بسبب الظروف المعيشية الصعبة خاصة في ظل نقص فرص العمل، فشاء الله ان تكون سنة 1957 اول ايام عمي محمد في ديار الغربة وبالتحديد في باريس، لتبدأ بعدها معاناته الحقيقية بسبب صعوبة العيش بعيدا عن الاهل والاحبة وصعوبة إيجاد عمل يعين بمداخيله اسرته، لتزداد معاناته اكثر بعد وفاة اخيه، ليبقى وحيدا يصارع مصاعب الحياة القاسية، ليقول في هذا الصدد محدثنا إن محمد كان حينها ينوي الرجوع للجزائر لكن الظروف الاجتماعية التي كانت تواجهه أرغمته على تحمّل الغربة والعيش وحيدا، وبعد سنوات من المكوث بفرنسا، قرر محمد الزواج، فقامت عائلته بالجزائر بخطبة قريبته سنة 1965 فأخذ زوجته معه الى فرنسا، لكن الزواج كان فاشلا لينفصلا بعد اربع سنوات من زواجهما لأسباب خاصة وتعود طليقته الى الجزائر ويبقى هو بفرنسا، إلا ان مشاكل عمي محمد لم تبق عند هذا الحد، بل تجاوزت ذلك لتبدأ مشاكل أخرى بسبب الميراث حيث اتفق إخوته على حرمانه من نصيبه من ارض والده باعتباره مهاجرا، ما حزّ في قلبه كثيرا بعدما اعتبره اقرب الناس إليه غريبا بينهم، ما جعله يتنازل عن حقه في الميراث رغما عنه، ليقاطع الجزائر ويتوقف عن زيارتها لمدة فاقت الخمس وعشرين سنة كان فيها شوقه وحنينه للجزائر يقتله كل يوم، لكن كبرياءه، كما كان يروي للمقربين اليه، كان يمنعه . فقدانه لابنه كانت بمثابة صاعقة وبعد جملة المشاكل التي عاشها عمي محمد وهو مغتربا في فرنسا والتي دفعته لمقاطعة اهله لمدة تقارب ال25 سنة، عاش محمد وحيدا منفردا في فرنسا الى ان تزوج مرة ثانية بامرأة فرنسية وانجبت له اربعة ابناء، كان يعتبرهم اعز ما يملك في هذه الدنيا وسنده الوحيد، لكن شاء الله ان يفارق احد ابنائه الحياة وهو في ريعان شبابه إثر مرض عضال وقد كان لوفاة ابنه الاكبر أثرا كبيرا على صحة ونفسية محمد، ما تسبّب له في مرض السكري من شدة الصدمة والحزن على فراق فلذة كبده، وقد كان قدوم محمد الى الجزائر فرصة لإخوته الذين ظلموه من اجل مصالحته وطلب العفو منه، والذين لم يتركوه وقتها لوحده بل التفوا حوله وساندوه للتخفيف من وطأة مصيبته. طلاقه زاد من تأزم حالته الصحية وبعد مكوثه لأكثر من شهر بالجزائر، عاد الى منزله بفرنسا ليكمل بقية حياته وهو يصارع المرض الذي تسبّب له في عدة متاعب صحية أثّرت على نفسيته وعلى حياته الزوجية ايضا، والتي بدأت بالتدهور بعد كثرة المشاكل والشجارات بين محمد وزوجته الفرنسية التي بدأت بافتعال المشاكل عمدا. وبعد سنوات من المشاكل والمتاعب، تأزمت الحالية الصحية لمحمد، ليدخل المستشفى لمدة فاقت الشهر اضطر فيها الاطباء لبتر ساقه خوفا على حياته، الا ان الامر الذي كان له وقع في نفسية محمد هو هجرة اهله وأبنائه، ما زاد من حدة معاناته وهو في ديار الغربة، ولم تتوقف معاناة محمد عند هذا الحد، بل كان في انتظاره عند خروجه من المستشفى امور لم يتوقعها يوما، فقد وجد زوجته رفعت عليه قضية خلع واستولت على منزله بكل ما فيه من مال وأثاث، ليجد نفسه بلا منزل بعدما ذهب كل ما افنى حياته من اجله في مهب الريح، ليستأجر منزلا صغيرا ويعيش فيه لوحده بقية حياته، وقد كانت زيارات ابنائه بين الحين والآخر له، ورغم انها كانت تقتصر على المناسبات والاعياد فقط، الا انها كانت تسعده كثيرا وتدخل الفرحة الى قلبه، خاصة ابنته الصغرى التي كانت عكس إخوتها ووالدتها حيث كانت حنونة على والدها وكانت تقوم بزيارته اسبوعيا وتعتني به وتطبخ له ما يشتهيه، حيث كان يقول انه كان ينتظر موعد زيارتها مثل الطفل الصغير بكل لهف وشوق لرؤيتها، ليضيف انها الوحيدة من بين إخوتها التي طلبت رأيه وموافقته على زواجها في حين ان إخوتها اكتفوا بدعوة والدهم إلى العرس من باب الواجب فقط، وهو الامر الذي جعله يندم على الزواج بفرنسا. تخلي أفراد عائلته عنه مرة ثانية زاد من معاناته ويقول إسماعيل ان محمد لم يستطع العودة الى الجزائر بسبب وضعه الصحي الصعب الذي يستلزم رعاية صحية خاصة، زيادة على خجله وخوفه من رد فعل وكلام عائلته واقاربه بالوطن ما جعله يفضّل البقاء بفرنسا ويقوم بإحضار ابن اخته للعيش معه ليؤنسه في غربته ويساعده في بعض الامور، حيث يقول محدثنا ان محمد قام بإيواء ابن اخته رغم معارضة ابنائه للفكرة، الا انه استقبل ابن اخته ووجد له عملا وكان لا يقصر معه أبدا وينفذ له كل طلباته واعتبره بمثابة ولده، لكنه هو الآخر، وبعدما تحسّنت أوضاعه المادية، قام بترك خاله وانتقل للعيش بمنزل منفرد، هذه الحادثة جعلت محمد يقاطع الجزائر وعائلته من جديد لكن هذه المرة بمرارة اكثر حيث اصبح لا يرد حتى على المكالمات الهاتفية الواردة من الجزائر. مات وحيدا ودفن في فرنسا.. رغم وصيته وبعد سنوات من الغياب، لم يستطع محمد الصبر على فراق الاهل والوطن خاصة حين اصبح في سن متقدمة وحيدا بالغربة وفي ظروف صحية حرجة جعلته يدخل المستشفى تقريبا كل اسبوع، حن محمد من جديد للجزائر بعد الزيارات المتكررة لأبناء عمه له وإلحاحهم عليه لزيارة الوطن وإخباره بان الجزائر قد تغيرت كثيرا منذ آخر زيارة له للجزائر، تشوق كثيرا ورغم مرضه الشديد، عاد الى الجزائر وقام بزيارة الاهل والاحباب الذين فرحوا به كثيرا ورحبوا به كل على طريقته الخاصة طيلة الاسبوع الذي قضاه في أرض الوطن، كما قام بالتجول بعدة احياء بالعاصمة واعجب كثيرا بالتغييرات التي طرأت على البلاد، ما اسعده وجعله يفكر بجدية للعودة والاستقرار بالجزائر. وبعد عودته الى فرنسا، وفي اقل من شهر وبعد تدهور حالته الصحية، توفي محمد عن عمر ناهز ال76 سنة قضى اكثر من نصفها في ديار الغربة التي قصدها ليرتاح، فزادت متاعبه وعاش فيها مهموما ووحيدا ومريضا فيها ليدفن فيها رغم وصيته بدفنه في ارض اجداده، اذ يقول اسماعيل، ان ابن عمه كان يقدّم كل شهر مبلغا من المال لإحدى الجمعيات المهتمة بشؤون الجالية الجزائرية بالخارج من اجل التكفل به عند وفاته ونقل جثمانه الى الجزائر، لكن وبسبب رفض اولاده وتعنتهم، تم دفنه بفرنسا خلافا لوصيته، ويضيف إسماعيل انه كان ينوي السفر إلى فرنسا ليهتم شخصيا بنقل جثمانه، لكن اولاده لم يخبروه بوفاة والدهم الا بعدما قاموا بدفنه.