كم ذا يكفي قلبيَ المُثقل من النبضات ليتمَكّن من ضبط إيقاع سمفونية البوح يا أبتِ؟ وكم يكفي المآقي من دموع لتعبِّر لك بكُل ممكن الصدق عن ندمها يا أبتِ؟ وكم ذا يكفي العواصف من هبوب لتعبر بلسان كل الأرض عن فخري بك يا صاحبي ؟ وهل درت خيوط الفجر وهي تنسج ضوءها أنها تُحيلني عدماً إذ تُذَكِّرُني بُكورك وقد جاوزت السّتين من السنين متوَجِهاً كُلّ يومٍ إلى السوق لإعالة ثلاثة عشر فردا من عائلتك ؟ وهل درى ذلك النّسْر الذي يحتضنه صدرك وشماً مَهيباً، أني مازلت أرسمه ذكرى جميلة في خاطري ؟ وهاأنا اليوم وقد بلغتَ التسعين يا أبتِ أعترف أني المقصِّر في حقك أيها الكريم الرحيم، وأنّي المفَرِّط في جنبك أيها المكافح الصّبور، وأني لن أُوَفيك حقك مهما فعلت. هل داويتك كما داويتني ؟ وهل كسوتك من نفس الماركات العالمية التي أقتنيها ؟ وهل أخذتك معي إلى تلك المطاعم الفاخرة التي أرتادها ؟ لا لم أفعل وأنت الذي أهمل نفسه لأجل أولاده، لا لم أفعل وأنت من كان يكسوني كسوتين في كل عيد، لا لم أفعل وأنت من أرسلني إلى فرنسا للعلاج حين مرضت صغيرا. أعلم أنك لا تطلب ذلك يا أبتِ ولكنه الوفاء الذي لم يعد كما كنتم، وأعلم أنه لا يكفي أن أُقبِّلك كل صباح ولا أن أسأل عن صحتك ومعنوياتك ولا أن أصطحبك معي إلى المقهى لتناول نقيع كما تشتهي. هل جالستك كما أجالس الأصدقاء وهل اهتممت بك كما أهتم بزوجتي والأولاد. وتمضي السنون ويمضي العمر يا أبت وما يزال رنين كلماتك يؤنس الآذان ويشحذ النفس ويجدد العزم في الطفل الصغير الذي ما زال يستعيد ذكريات الطفولة والصبا بكل عنفوان الثائرين كلما دنت منه هواجس اليأس والقنوط. نعم كلماتك أيها الطود تلك التي لم تكن تدري وأنت تلقي بها أنك ترتكب في حق الطفل جرما اسمه "الوقوف" نعم هو ذا يا أبت هو"الوقوف" ويستمر المسير يا صاحبي وما أظنه سيتوقف يوما وأعلم أنك مع الكبر والمرض عدت تخشى على الطفل من ذئاب الغاب ويؤرقك ألا أنياب له فيفترس ولا مخالب فيدمي بها وجوه المتربصين وأنك لا تملك عزاء غير قضاء ومشيئة الأقدار. نعم هو جرم الوقوف علمتنا إياه فافخر يا أبتي ولا تجزع. عبد الوكيل بلام