عبد الكريم تفرقنيت الصحفي والأستاذ الجامعي عايش تجربة الصحافة الخاصة منذ انطلاقها قبل 25 سنة، انتقل من الممارسة إلى التدريس والتعليم، عارضا خبرته على طلاب الإعلام، مثلما تتم استضافته كونه محللاا سياسي في الكثير من المنابر الإعلامية المحلية والأجنبية. في هذا الحوار الخاطف يقدم عبد الكريم تفرقنيت عصارة تجربته، مثلما يقدم رؤيته للإعلام الجزائري.
قضيت سنوات عديدة في الصحافة المكتوبة منذ1990، وكنت من أوائل الملتحقين بصحيفة الخبر؟ كيف تقيم تجربتك؟ ج : قبل إكمالي الدراسة الجامعية في معهد الإعلام والاتصال بجامعة الجزائر، بدأت ممارسة الصحافة في جريدة "المساء" بصيغة متعاون( دون حضور دائم ولا توظيف )، وذلك في أواخر عام 1988، وحينها تابعت بعض لقاءات جمعية الصحفيين الجزائريين( التي كانت في طور التأسيس) وكانت للنقاشات التي دارت فيها تداعيات وآثار عميقة في حياتنا الصحفية، حيث ترسخت لدينا كمننا شبابا وجيلا مستقبليا يحمل طموحات وأفكار جديدة أفرزتها مرحلة ما بعد هزة 5 أكتوبر 88 في تغيير واقع وتوجه المسار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والإعلام بصفة خاصة للجزائر. كنت ضمن الذين آمنوا بأفكار مثل الموضوعية والاحترافية والصدقية والاستقلالية، وحاولوا تطبيقها وتجسيدها في صحافة المرحلة الجديدة (الصحافة الخاصة) التي جاءت في سياق الإصلاحات أو الانفتاح أو اقتصاد السوق، أو إطلاق الحريات، على تعدد واختلاف التسميات، اخترت الصحافة الخاصة على رغم أن الفرصة تسنت في أن يتم توظيفي في صحافة القطاع العمومي ( الحكومي). لماذا غادرت الصحافة المكتوبة واخترت التدريس ؟ ج: عاشت الصحافة الخاصة التي يفضل أصحابها تسميتها ب " الصحافة المستقلة " عصرها الذهبي في الفترة الممتدة بين عامين، 1990 إلى 1992 ، وامتدت رياح التغيير حتى إعلام القطاع العمومي. وبدخول الجزائر الأزمة الأمنية والسياسية دخلنا "العشرية الحمراء" وخضنا في الإعلام تجربة قاسية امتزجت فيها الدماء بالدموع، وكانت الصحافة الخاصة بين السندان، رعب الإرهاب والحذر من مضايقات السلطة. و من تداعيات الأزمة بعد مرورها أن تقلصت الحريات وفقدت الصحافة الخاصة الكثير من الجرأة والاستقلالية في ظل تذبذب الطبقة السياسية، وطغيان العامل التجاري، وبروز سطوة البحث عن الإشهار والإعلانات، وبدأت مرحلة البحث عن ضمان تمويل مالي يحقق البقاء والاستمرارية في الساحة الإعلامية. وأرى موازاة مع هذا أنه لم تتحسن بشكل لائق الظروف المهنية و الاجتماعية الصعبة التي يعيشها الصحفيون، فلم ترتفع الأجور ولم تثمن المجهودات التي قاموا ويقومون بها، بحوافز مادية ولا حتى معنوية، في ظل اللامبالاة مقصودة أو عفوية من قبل الصحفيين ذاتهم وغياب التضامن والعمل المشترك بينهم في إنشاء نقابات والدفاع عن حقوقهم بشكل جماعي، وتنصل الحكومة ودوائرها من مهمة الاعتناء بالصحافة، عوض التوجه نحو تطويعها. تشابك هذه العوامل وغيرها أدى بالصحافة الخاصة في أغلبها في أن تصبح ورشة مفتوحة للصحفيين المبتدئين، ومع مرور الوقت يتفاقم النزيف، حيث يزداد رحيل الصحفيين الذين يصلون إلى ما فوق عشر سنوات تجربة في العمل الصحفي، إلى وظائف أخرى مثل العمل في مجالات تتعامل معها الصحافة كخلايا الاتصال في المؤسسات والشركات أو تدريس الإعلام والاتصال في الجامعات وغيرها، طبعا هناك عدد من الصحفيين ذوي التجربة مازالوا في الجرائد، ولكن عددهم يتقلص يوما بعد يوم، وهذا ما يترك الانطباع بأن الصحافة الخاصة تطرد القدامى، وهو ما يتسبب في سقوط معادلة تراكم الخبرة من أجندتها. هل هنا ك فرق بين صحفي تحول إلى أستاذ جامعي و ما الذي يجعله مختلفا ؟ ج: قضيت قرابة ربع قرن في الصحافة ، منها 18 عاما في جريدة "الخبر"، بين صحفي ومسؤول في التحرير، التحقت بها شهرين قبل صدورها، وأسهمت مع مجموعة من الصحفيين الشباب في التأسيس لصحافة ما بعد أكتوبر 88، من حيث طبيعة اللغة الإعلامية ومن حيث المحتوى الصحفي، اللذين تطورا وأخذا أشكالا ومضامين جديدة تجسد قيما ومفاهيم مغايرة لما سبق. ما زلت أمارس الصحافة ليس بصفة دائمة مثلما كنت لمدة 25 عاما، فالآن أكتب في الجرائد بصفة متعاون مقالات تحليلية وتعليقات، كما أنجز روبورتاجات وأجري حوارات كلما أتيحت الفرصة، وهذا ما يتيح لي في الوقت نفسه التدريس في الجامعة وممارسة الصحافة التي أعتبرها هواية قبل أن تكون مهنة. وعندما تقوم بتدريس علوم الإعلام والاتصال في الجامعة وفي مراكز التدريب الإعلامي فإنك تجد نفسك تعلم الطلبة مهنة الصحافة والإعلام كتابة وممارسة وأخلاقا، فيمتزج الجانب النظري للأستاذ والجانب التطبيقي للصحفي الممارس صاحب الخبرة والتجربة الميدانية، وهذا قد يفيد الطلبة، كما أنه بالنسبة لي جزء من ممارسة فنون الصحافة. كيف تقيِّم واقع الإعلام الجزائري اليوم في ظل الفضائيات الحديثة؟ كان الإعلام الجزائري إلى وقت قريب يتميز بالجرأة في الطرح، مقابل الحذر الذي كان يلف الإعلام في الدول العربية الأخرى، وقد غطت هذه الجرأة عن بعض النقائص التي يعيشها عندنا، مثل تدهور الوضع الاجتماعي للصحفيين، وتذبذب الخط الافتتاحي وانتشار "الزبائنية" وسط بعض الناشرين وحتى الصحفيين وسطوة الاشهار، وشح اللغة والمضمون، وتقلص مجال المنافسة في التجديد والارتقاء وجلب المعلومات . ولكن بعد ما سمي ب "الثورات العربية"، عرفت وسائل الاعلام في الكثير من الدول العربية جرأة فاقت وقد تزداد تفوقا على الإعلام الجزائري-سواء كان جرائد أو قنوات تلفزيونية – الذي عليه الآن أن يبحث عن طرق ووسائل وصيغ أخرى يحقق بها التميز عن غيره في الدول العربية، وأعتقد أن الاستمرار في الجرأة ضروري، ولكن موازاة معه ينبغي العمل على الارتقاء بالنوعية والاستثمار في العنصري البشري المتمثل أولا في الصحفيين والعاملين في القطاع.