انطلقت جماعات الجهاد المعاصر تحت لافتة (معاداة الكفار)، فأعلنت الحرب ضد الجميع، حكومات محلّية بتهمة الردّة والكفر والشّرك، وحكومات دول عالمية كأمريكا وروسيا وأوروبا والهند والصّين، بتهمة الكفر ومحاربة المسلمين. داخل الوطن الواحد كفّرت السّلطة والمعارضة معا والشّعب إذا انتخب أوشارك في الدّيمقراطية، وكفّرت الحركات الإسلامية سلفية كانت أو إخوانية أو صوفية، إذا ظلّت على منهجها السّلمي في المشاركة في الديمقراطية والانتخابات، وكفّرت الشّيوخ والعلماء إذا حسّنوا الشّرك في التّشريع للحكّام أو أيّدوا بفتاواهم حكومات الردّة والشّرك، وكفّروا المثقّفين والمفكّرين من العلمانيين واليساريين، وسفّه أبو قتادة الفلسطيني أيّ دعوة للحفاظ على النّسيج الوطني " لابد من التّنبيه على ضلال دعوة بعض قادة الحركات المهترئة بوجوب الحفاظ على النّسيج الوطني أو اللّحمة الوطنية أو الوحدة الوطنية، فعلاوة على أنّ هذا القول فيه شبهة الوطنية الكافرة، إلاّ أنّه يدلّ على أنّهم لم يفهموا قطّ الطّريقة السَّننيّة لسقوط الحضارات وبنائها " (مقالات بين منهجين)، وكأنّ بناء الحضارة يتمّ بثقافة الكراهية والعداوة والدم والقتل !!. وانطلقوا من قول ابن تيمية" لن يقوم الدّين إلاّ بالكتاب والميزان والحديد "، فظنّوا أنّ نشر العداوة وعقيدة الدم وثقافة القتل ستُعيد للدّين أمجاده، وكأنّ دين الحقّ يُبنى على الظّلم والقهروالاعتداء. وعندما يُسأل الزّرقاوي عن برنامجه السّياسي، يقول " برنامجنا السّياسي :"بعثت بالسّيف"، وكتب رسائل تحت عنوان " لا يضرّهم من خالفهم". وزعم أيمن الظّواهري، أنّهم يقومون بحملة جهادية عالمية واسعة ضد " أعدائنا الصّليبيين واليهود والرّوس والّشيشان وأفغانستان والعراق وفلسطين والصّومال والجزائر" (التّبرئة 82). وهم ضد السنّة وضد الشيعة الروافض وضد الصوفية وضد العرب وضد الأكراد وضد المسلمين وضد المسيحيين وضد الأقليات الذين يعيشون في وطن واحد، هم ضد الفنّ وضدّ الرسومات المنحوتة على الصّخور منذ قرون وضد المتاحف وضد الغناء وضد التلفزيون وضد الدّش وضد التعليم المختلط وضد خروج المرأة وضد عملها ضد اللباس العصري ضد الثقافة العصرية ضد الفلسفة ضد علوم الاجتماع وضد علم النّفس، فهي كلّها علوم كفريّة باطلة. هم ضد الدساتير ضد القوانين محليّة وعالمية، ضد الاتفاقيات الدولية ضد جامعة الدول العربية ضد الأمم المتّحدة، إنّهم باختصار ضدّ الإنسان وحضارته ودنياه ضد العقل ضد المنطق لا يؤمنون بفقه المصالح ، فهو كما قال أبو قتادة " أما فقه المصالح والمفاسد المعاصر فهو فقه ضالّ " (على خطى إبراهيم 19). ولا يرون إلاّ مصلحة الدّين وفقط، ويتساءل العقلاء أيّ مصلحة للدّين بهذه العقلية المنفّرة مع أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، يقول لأصحابه " يسّروا ولا تعسّروا بشّروا ولا تنفّروا ". وحاول تيار الجهاد المعاصر تبرير هذا الشّطط بالاستدلال بحديث " لا يضرّهم من خالفهم "، وكذلك بالتّذكير بأحاديث الغربة والغرباء، وربّما السبب " الأصوليات جميعها ذات مطلقات وأحكام نقدية وحلول مطلقة، فلا تقبل الحوار والحلول الخيارية الأخرى، فإمّا هذا وإمّا فلا " ( تهافت الأصولية 13). وربّما ما قاله أحدهم صحيح " الإسلاموية وخطابها إنّما يقومان على فكرة المجابهة والمواجهة ولا يجدان نفسيهما كاملين ومكتملين إلاّ في حالة الصّدام " (حمد تركي /من هنا يبدأ التّغيير 282). وقد أثبتت معظم الدّراسات أنّ التّطرّف والكراهيّة لا ينفكان عن بعضهما البعض، فلا يقوم وجود الأنا المتطرّف إلاّ بإلغاء الآخر "إنّها معركة عقائد وصراع وجود وحرب لا هدنة فيها "، (الظّواهري / فرسان تحت راية النّبيّ 84). التّسامح المنسي في حضارتنا : تشاء حكمة اللّه سبحانه أن الذي يحمي النّبيّ من أن تمتدّ إليه يد الأذى رجل مشرك أبو طالب، وأن الذي يحميه بعد عودته من الطّائف رجل مشرك المطعم بن عدي، وأن يكون دليله في هجرته المباركة رجل مشرك عبد اللّه بن أريقط، وأن يكون تحالفه الأوّل مع خزاعة، وهي قبيلة مشركة يسالم من يسالمها ويحارب من يحاربها، وكانت عينه بمكّة تأتيه بالأخبار عن قريش وتحرّكاتها، وكان الذي يخدمه غلام يهوديّ لم يُسلم إلاّ في فراش المرض عندما جاءه " النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يعوده فقعد عند رأسه، فقال له " أسلم فنظر (الغلام) إلى أبيه وهو عنده، فقال له "أطع أبا القاسم صلّى اللّه عليه وسلّم" فأسلم، فخرج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يقول " الحمد للّه الذي أنقذه من النّار " (البخاري ج1ص 291). وشارك اليهود قسمة في أرض خيبر " أعطى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم اليهود خيبر أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها " (البخاري ومسلم / جامع الأصول 11/23). "وأرسل الكتاب إلى هرقل مع عدي بن حاتم، وكان إذ ذاك نصرانيا فوصل به مع دحية معا " (فتح الباري 1/32). ويستقبل وفد النّصارى في المسجد، يحاورهم حتى قال بعضهم صلّوا صلاتهم بالمسجد، وكان يأذن للمشرك الدّخول إلى المسجد " حتّى يسمع كلام اللّه "(التّوبة 6 )، ويتلطّف في مراسلاته مع قادة الروم والفرس وغيرهما " من محمّد رسول اللّه إلى هرقل عظيم الروم "،" إلى كسرى عظيم الفرس "، وما قال له الصّحابة أنّك تعظّم المشركين بل تلك مقتضيات المعاملة الحسنة، وتلك هي ثقافة الدّولة القائمة على احترام النّاس والتّودّد إليهم بالعبارات المقبولة والحسنة، وتلطّف وتسامح مع المنافقين رغم كفرهم وكيدهم ومكرهم وتعاونهم مع الأعداء وأرسل قميصه ليُكفّن فيه عبد اللّه بن أبيّ بن سلول، رغم نزول النّص في كفره ومنع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم من الصّلاة عليه. وفي المدينة " وادع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من بالمدينة من اليهود وكتب بينه وبينهم كتابا، وبادر حبرهم وعالمهم عبد اللّه بن سلاّم، فدخل في الإسلام " (زاد المعاد 3/65 )، وكان اليهود في المدينة أربع تجمّعات (بني قينقاع، بني النّضير، بنو قريضة وخيبر) ومع ورود النّص " لتجدنّ أشدّ النّاس عداوة للذين آمنوا اليهود " (المائدة 82)، ما كان النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم يأخذ أحدا بجريرة آخر، فعندما اعتدت بنو قينقاع قاتلهم وحدهم من دون الثلاثة، وعندما غدرت بنو النّضير وحاولوا قتله قاتلهم وحدهم، وعندما خانت بنو قريظة في غزوة الأحزاب قاتلها وحدها. وكان صلّى اللّه عليه وسلّم يعطي الأمان للكفّار والمشركين ويُحرّم الاعتداء عليهم ويُحصّنهم بعقد الأمان لا يمسّه سوء ولو أثناء الحروب " من قتل نفسا معاهدة لم يرح رائحة الجنّة " (البخاري) وكان صلّى اللّه عليه وسلّم يعفو ويسامح ويغدق العطايا ويتألّف القلوب ويبشّ في وجه الكافر اسئلافا لقلبه. واستمرّت حضارة المسلمين على هذا النّهج القويم قمّة في الإنسانية والعدل والرّحمة والتّسامح، وقد تولّى كثير من اليهود والنّصارى مواقع في الدّولة والخلافة متقدّمة وعاشوا في ديار المسلمين تجّارا تنمو أموالهم دون أم يعتدي عليهم أحد. وعمر بن الخطّاب بعد أن طعنه رجل مجوسي أبو لؤلؤة يوصي بهم خيرا " أن يوفّى بعهدهم وأن يقاتَل من ورائهم ولايكلّفوا فوق طاقتهم " (البخاري 2887). وكان الإمام الأوزاعي معروفا بدفاعه عن حقوق أهل الذّمة ولا يزال التّاريخ الأوروبي يذكر صنائع صلاح الدّين الأيوبي وهو يحرّر آلاف الأسرى المسيحيين ويطلق سراحهم من غير فداء، ويذكر فضائل الأمير عبد القادر في دمشق وهو يتصدّى للحملة ضدّ المسيحيين ويحميهم، هذا هو ديننا وهذه هي حضارتنا التي شوّهها دعاة العنف والسّيف في غير محلّه. يتبع…