فضيلة الشيخ عبدالفتاح عبد القادر جمعة إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية وباحث فى الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم مصر من الواجب علينا، كدعاة لدين الله تعالى، أن نكون أمناء فى تبليغ دعوتنا الى الناس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أرسل لم يكن لأمة بعينها، ولا لدولة وفق حدودها، وإنما أرسل للناس جميعا يقول تعالى (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون) وما دام رسالته صلى الله عليه وسلم عامة فلا بد أن يأتي بمنهج أخلاقى قيمى يفوق كل مناهج الأخلاق الفاضلة، لذا قال الله فى حقه (وإنك لعلى خلق عظيم) والخلق العظيم لا بد أن يستوعب المختلفين والتعايش معهم على اختلافهم وتنوعهم الذى هو فطرة إلاهية فطر الله الناس عليها، قال تعالى (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين) ولكن فى زماننا امتهن الدعوة من لا علم له، وإن كان له علم صبغه بمقاصد فاسدة فضلّ وأضلّ وأفسد عن قصد وغير قصد، وصدر للناس دعوة يملؤها العنف والتشدد وعدم قبول الآخر، بل كان هؤلاء الأدعياء سببا لخراب أوطانهم وإراقة دم الكثير من الأبرياء داخل مجتمعاتهم وخارجها، ولو رجعوا الى نبع الفضيلة وهدى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لوجدوا ضالتهم في الدعوة الى الله على بصيرة، وكيف كان صلى الله عليه وسلم يعامل، لا أقول أتباعه، ولكن المختلفين معه في الدين والملة. إن المتتبع لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد بما لا يقبل الشك صفحات مشرقة في حسن تسامحه وتعامله مع مخالفيه في العقيدة والدين، وضرب لنا أروع الأمثلة في التعايش مع الآخرين على اختلاف دياناتهم ومعتقداتهم وأوطانهم. وإليكم بعض تلك الصور المضيئة في تعايشه صلى الله عليه وسلم مع المخالفين. أولا – لو ابتدأنا بتعامله صلى الله عليه وسلم مع مشركي مكة الذين حاربوه وأخرجوه من بلاده التي ولد وترعرع فيها كيف كان تعامله معهم بعد زوال الشدة والضيق وتغير الأحوال التي امتلك معها القوة والرخاء وهم في الوقت نفسه يعلنون الحرب عليه فنجده صلى الله عليه وسلم يقف موقفا انسانيا وأخلاقيا عظيما معرضا أولا عن إذائهم والقصاص منهم، فإذا به صلى الله عليه وسلم (يبلغه أن أهل مكة أصابهم القحط فيبعث لهم بخمسمائة دينار ويأمر بدفعها إلى أبي سفيان وصفوان بن أمية ليفرقها على فقرائهم) (أورده السرخسي في كتابه شرح السير الكبير، ج 1، ص 96، ط1971، الشركة الشرقية للإعلانات مصر).
ونجد أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يمنع أصحابه رضوان الله عليهم من صلة أقاربهم من المشركين في مكة؛ فقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن أسماء بنت أبي بكر رضى الله عنهما قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد قريش، فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها؟ قال: "نعم صليها". متفق عليه. ثانيا: تعايشه صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين بتبادل الهدايا معهم وتعامله معهم في البيع والشراء والأخذ والعطاء والاقتراض منهم وجميع المعاملات الحياتية التي يتعاملها بها أبناء المجتمع الواحد. تنقل السيدة عائشة رضى الله عنها (أن النبى صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما إلى أجل معلوم، وارتهن منه درعا من حديد) أخرجه البخاري. وأما تبادله الهدايا من غير المسلمين فنجده صلى الله عليه وسلم يقبل هدية زينب بنت الحارس اليهودية امرأة سلام بن مشكم بعد فتح خيبر فقد أهدت له شاة مسمومة فقبلها!!! (القصة رواها البخاري في صحيحة، باب قبول الهدية من المشركين، رقم 617). وقبل صلى الله عليه وسلم هدية المقوقس صاحب الإسكندرية وكان عظيم القبط. ثالثا – مخالطته صلى الله عليه وسلم لغير المسلمين، وإجابته دعوتهم، وأكل طعامهم، واستقبال وفودهم، وقيامه لجنازاتهم، واتخاذه خادما يخدمه من غير المسلمين، كلها تثبت الصورة الرائعة التي رسمها النبي صلى الله عليه وسلم للتعايش مع المخالفين، وفي استقبال وفودهم، فقد استقبل صلى الله عليه وسلم وفدا من نصارى نجران وكانوا ستين راكبا، وقصتهم مبسوطة في كتب الحديث والسير لا يتسع المجال لسردها، والشاهد فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبلهم وأدخلهم مسجده وصلوا صلاتهم فيه، ما يدل على احترام معتقدات الآخرين. وكذلك عندما قدم وفد النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم بخدمة الوفد الزائر بنفسه. وأخيرا، جانبا من السنة العملية باعتبار النبى صلى الله عليه وسلم رئيسا للدولة مع مواطنيه القاطنين تحت ظل حكمه صلى الله عليه وسلم، وهو ما حدث في المدينةالمنورة في إبرام وثيقة المدينة هذه الوثيقة التي جسدت أروع صور التعايش الحضاري والتعايش الاجتماعي في ظل الدولة التي كانت دستورا بين سكانها وأهلها من المهاجرين والانصار من جهة واليهود من جهة ثانية، وقد تضمنت تلك الوثيقة حرية العقيدة والرأي، وحرمة الأنفس والأموال، وحرمة الجوار ونصرة المظلوم ومقاومة المعتدي، وأن يكون سكان المدينة على اختلاف دياناتهم يدا واحدة على من يهاجمهم أو يحارب أهلها. ومما سبق وغيره يتضح لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم تعامل وتعايش مع غير المسلمين ذميين ومعاهدين وحربيين ومن مختلف الأديان والمعتقدات، وضرب أروع الأمثلة بتعايشه مع مختلف الثقافات بصدر رحب وتسامح فذ قل نظيره أو قل لا نظير له. وصلى الله عليه وآله وصحبه وسلم