محمد إيوانوغان، إعلامي محترف بامتياز، اسم له بصمته في الصحافة المكتوبة عبر عدد من الجرائد وعلى رأسها الخبر، ثم قناة "كا بي سي"، خص "الحوار" بحديث مطول استرسل فيه عن ماضيه الإعلامي الحافل، فقال" لم نكن نطلب مكافآت مالية ولا جوائز نظير مغامراتنا، واليوم يؤلمني ما أشاهده في قاعات التحرير من تنافس على تغطية زيارات الوزراء وندوات "نجمة" و"جيزي" و"موبيليس" … وتؤلمني بيانات وزارة الدفاع حول ضبط كميات من الكيف المعالج …. كأن الصحفيين الجزائريين غير مؤهلين لتقدير التحديات الأمنية المحيطة بالبلاد". * قرابة ربع قرن من الممارسة الصحفية في عدة جرائد وصحف، كيف تقيم هذا المشوار الطويل؟، وهل أنت راض عن كل ما قمت به، أم أن الآتي هو الأفضل؟ -بدأت العمل الصحفي فور تخرجي من معهد الإعلام والاتصال سنة 1992. كانت كل الأفق مسدودة آنذاك سواء على المستوى المادي أو المهني، دون الحديث عن الجانب الأمني. كان ممنوعا علينا التصريح بمهنتنا، وهذا جزء صغير من الاحتياطات الأمنية المفروضة علينا حتى نبقى على قيد الحياة إلى اليوم. لكن هذه الظروف واجهناها بصغر السن الذي ساعدنا على عدم الاكتراث بما يدور حولنا من مخاطر ومن مصالح، انشغالنا الوحيد هو السبق الصحفي ونقل الحدث من موقعه، وعدم القبول بتغييرأبسط فاصلة مما نكتبه. لا يمكنني أن أنسى مثلا يوم اتصل بي أحد الضباط العاملين في القطاع العملياتي بتلمسان ليخبرني بوجود عملية تمشيط واسعة في المنطقة، حيث شرعت على الفور في تحضير إجراءات التنقل وانطلقت في نفس اليوم إلى تلمسان وعندما وصلت وسألت عن الضابط، لم يصدق عندما شاهدني أمام مدخل القطاع العملياتي، سألني عن ترخيص وزارة الدفاع فقلت له لم أطلب الترخيص، فقال لي لا أستطيع أن أصطحبك إلى مكان العملية دون ترخيص، عليك أن تتوجه بمفردك، أخذت سيارة "كلانديستان" وصعدت إلى أعالي جبال مشاميش، وهناك وجدت ضابطا آخر، قال لي بما أنك وصلت إلى هنا لا أستطيع منعك من أداء مهمتك…. لم نكن نطلب مكافآت مالية ولا جوائز نظير مغامراتنا، و اليوم يؤلمني ما أشاهده في قاعات التحرير من تنافس على تغطية زيارات الوزراء وندوات "نجمة" و"جيزي" و"موبيليس" … وتؤلمني بيانات وزارة الدفاع حول ضبط كميات من الكيف المعالج …. كأن الصحفيين الجزائريين غير مؤهلين لتقدير التحديات الأمنية المحيطة بالبلاد. تسألونني عن تقييم مشواري وهل الآت أفضل؟، لا أعتقد ذلك لأن الزمن الذي تحدثت عنه في هذا المقام زمن آخر أتمنى عودته، لكن حلمي أن تلك التجربة ستنقل الصحافة الجزائرية إلى صف كبريات الصحف العالمية وليس العكس.
* عد تجربة في الصحافة المكتوبة، انتقلت إلى الالكترونية ثم إلى السمعي البصري في قناة "كا بي سي". ما الدافع إلى ذلك، وماهي الإضافة المكتسبة من وراء كل تجربة؟ -توليت عدة مناصب مسؤولية طيلة مشواري المهني ولا أمكث فيها لأكثر من سنة لعوامل كثيرة لكن العامل الأساسي أنني لا أتشبث بالمسؤولية. كنت دائما على قناعة أن الممارسة الميدانية هي رأسمالي الحقيقي، وعندما أجد نفسي غير قادر على ممارسة عملي بالأسلوب الذي يعرفني به القراء أغير الأجواء، هذه الطبيعة التي تحكمني قادتني إلى إطلاق صحيفة إلكترونية مع مجموعة من الأصدقاء، والتجربة لم تعمر لأكثر من بضعة أشهر حتى لا أدشن مسارا جديدا في حياتي، وهو مسار رجل محتال لا يلتزم بحقوق من يشتغلون معه. بعد هذا الإخفاق انتقلت إلى قناة "الخبر" بتشجيع من زميلي وصديقي عاطف قدادرة وعلي جري اللذين أقنعاني بأن السمعي البصري لن يصعب علي بعد تجربتي الطويلة في الروبرتاج المكتوب.
* كيف تنظر إلى مستقبل الصحافة المكتوبة على ضوء الثورة التي أحدثتها وسائل التواصل الاجتماعي والأنترنت؟ -الذي يهدد مستقبل الصحافة المكتوبة في الجزائر ليس وسائل التواصل الاجتماعي ولا الصحافة الإلكترونية، بل سياسة النسيان التي تمارسها السلطة على المجتمع. أنا أنتمي لجيل أكتوبر 1988، وعانينا كثيرا من نقص التأطير. لكن هذا النقص له مبرراته الموضوعية، كالوضع الأمني والاقتصادي الذي دفع بالصحفيين الكبار لمغادرة العمل الصحفي والذين بقوا في الصحافة عدد كبير منهم حصدت أرواحهم آلة الإرهاب وآخرون تحوّلوا إلى مالكي عناوين صحفية، وكان عليهم رفع تحديات كثيرة أنستهم تأطير الجيل الجديد من الصحفيين. أما اليوم فهناك رفض متعمد لأي خبرة في العمل الصحفي، والهدف من ذلك واضح هو تخليص الصحافة صحافتنا من كل الذين يملكون خلفية عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وخاصة الأمنية التي مرت بها البلاد. الحكومة الحالية تريد إقناع الشعب بأن الجزائر بدأت سنة 1999. * من جريدة "الخبر " إلى قناة "كا بي سي"، عالمين مختلفين، كيف تكيفت مع الوضع الجديد؟ -الفرق بين الصحافة المكتوبة والسمعي البصري شاسع، هما عالمان مختلفان تماما، الأول يعتمد على قدرة الصحفي في استغلال المعلومات المتوفرة لديه بأسلوب مشوق، أما الثاني فيتوقف على الوصول إلى التسجيل الصوتي المثير وإلتقاط الصورة المشوقة، وعندما يتحقق هذا إنتهى كل شيء. العاملون في مجال السمعي البصري يولون اهتماما كبيرا لمعادلة التعليق على الصورة، لكن الصعوبة تكمن في الحصول على الصورة خاصة في بلد كالجزائر، حيث تتخذ القرارات خارج الأطر الرسمية، والمجتمع بشكل عام لا يحب الشفافية. *كيف تقيم تجربة القنوات الخاصة على حداثتها؟، وهل سيعرف القطاع السمعي البصري قفزة في المستقبل برأيك على ضوء الواقع الميداني في البلد؟ -المجال السمعي البصري فيه شقين: الشق الفني وهذا بحاجة لصناعة سنيمائية وصناعة المسلسلات ورسوم الأطفال وغيرها من المجالات الفنية الغائبة في بلادنا، أما الشق الإعلامي فهو أيضا بحاجة إلى إنتاج تحقيقات كبرى وأشرطة متخصصة في مجالات متعددة، وهذا أيضا غائب في الساحة الجزائرية، أما نشرات الأخبار والحصص التي تملأ الشبكات البرامجية لقنواتنا، فهذا لا يكفي لإشباع حاجة المواطن للتلفزيون، خاصة وأن اليوتوب اليوم يسمح لأي كان بنشر أي فيديو عن أي حدث لحظة وقوعه. ومهما كانت نوعية صور الهواة، فإن الصورة الحية أهم من أي صورة يجتهد أي مخرج في تقديمها للمشاهدين، نحن إذن بعيدون كل البعد عن مفهوم السمعي البصري، ولا توجد مؤشرات توحي أننا نسير في اتجاه المفهوم الحقيقي للسمعي البصري. *هل ترى أن انتشار الوسائل الالكترونية قد دعم الصحافة عموما، على غرار تراجع الرقابة والمقص، أم أن الأمور لم تتغير كثيرا في الممارسة؟ -وسائل الإعلام الالكترونية رفعت الخناق على العديد من الفاعلين في المجتمع كالسياسيين والنقابيين والنشطاء الحقوقيين، هؤلاء أغلقت وسائل الإعلام التقليدية في وجوههم في السنوات الأخيرة، لكن في المقابل أخلطت هذه التكنولوجية الجديدة الأوراق على الصحفيين المحترفين ناهيك عن المواطن البسيط الذي يتلقى كما كبيرا من الأخبار كل ساعة أو ثانية دون أن يستطيع التأكد من صحتها ولا مصدرها. هي ظاهرة عالمية، لكن وقع الكارثة في بلادنا أكبر بالنظر لغياب أدوات قانونية تسمح بمتابعة وتنظيم وسائل الإعلام الالكترونية. *هناك من يرى أن سقف الحرية تراجع، هل صحيح ذلك ولماذا يعود برأيك؟ -مفهوم الحرية هو الذي تغير الآن. الحرية عند الصحفيين في المراحل السابقة تعني أن الصحفي فاعل في المجتمع، ينتمي للنخبة المناضلة من أجل الرفع من سقف الحريات الديمقراطية بشكل عام. اليوم اخترعوا لنا مفهوم الاحترافية وتحول الصحفي إلى تقني ينتج الأخبار دون التمعن حتى في قيمة الخبر، ولذلك نجد مثلا فتح موقع إلكتروني لتسجيل طلبات السكن إلى سكن بحد ذاته. وزاد من تعميق هذه المأساة التأثر بوسائل الاتصال الافتراضية، الكل دخل في الفايسبوك، الحكومة، الصحفيون، الشعب… والكل يتهرب من الواقع. * نضالات الصحفيين في السنوات الأخيرة اختفت. هل يعود إلى تحسن الوضعية، أم إلى تقاعد جيل وتخلي الجيل الجديد من الصحفيين عن حمل المشعل؟ -دور الصحفي تغير كما قلت، الصحفي اليوم منشغل بالنجومية والصحافة أصبحت جزء من قواعد اللعبة التي تحكم العلاقات الاجتماعية، فمثلما أنت بحاجة ل"معريفة" من أجل استرجاع رخصة سياقتك، أنت بحاجة أيضا ل"معريفة" في الصحافة لطرح قضيتك وجعلها قضية وطنية. حاورته: سامية حميش