الجزء الأول فاروق أبو سراج الذهب طيفور / باحث في العلوم السياسية يعتقد البعض – ممن يهمه أن تفشل مبادرة المعارضة في حل الأزمة في الجزائر- أن وثيقة مزفران تقترح حلا بدون السلطة القائمة، وأن مطالبته بإشراك السلطة في الحل هو اكتشاف جديد، وأن عدم حضور البعض في ندوتها الثانية بمبررات لا ترقى إلى مستوى التحدي والالتزام يمكنه أن يؤجل المشروع السياسي المشترك للمعارضة والذي أكدته الندوة الثانية في إعلانها السياسي. وقد يكون لهذا الرأي وجاهة سياسية إذا لم تحضر المعارضة نفسها للمستقبل بمرونة وتكيف وقدرة على امتلاك عناصر القوة ومجالات العمل والنفاذ إلى النخب والشعب بمصداقية وعقلانية وقدرة على استشراف المستقبل. ومن أهم عوامل القوة التي تمتلكها المعارضة هو الصلابة الفكرية للمشروع الذي تحمله والمنصوص عليه في أرضية الحريات والانتقال الديمقراطي التي عملت جهات عديدة على تشويهها والتضليل عليها في مقابل ضعف المعارضة على التسويق لمقاربتها السياسية، وقد بلغ التضليل والتشويه مبلغا هاما عندما أصبح الرأي العام سهل الإقناع بأن مشروع المعارضة هو مشروع انقلابي تحت مسمى شعارات الربيع العربي (إرحل –والشعب يريد إسقاط النظام) وقد انطل هذا الخطاب على فئات هامة في المجتمع، والحقيقة أن أرضية مزفران تقترح حلا تفاوضيا تشترك فيه السلطة والمعارضة من خلال حوار جاد وشفاف وعميق يدرس كل البدائل التي من شأنها أن تساهم في إبعاد شبح التهديد والخطر عن الجزائر ويرسم مسارا جديدا للانتقال الديمقراطي التوافقي. المشكل فيمن يسوقوا لفكرة أن المعارضة تريد انتقالا ديمقراطيا بدون السلطة الحالية لم يطلعوا أصلا على الأرضية المقترحة، والتي جاء فيها بالنص (وتعد هذه الأرضية ثمرة حوار جاد بين القوى السياسية والاجتماعية المعنية بالتحول الديمقراطي وذلك للوصول إلى وفاق وطني يشمل المعارضة والسلطة ويرسخ ويؤطر الانتقال الديمقراطي إلى حين تجسيد وانتخاب مؤسسات ديمقراطية ضمن قواعد يتم تبنيها بالإجماع)، كما تتحدث أرضية مزفران على أن (نجاح الانتقال الديمقراطي يتطلب وفاقا وطنيا يعتمد التفاوض بين جميع الأطراف بشكل يضمن تاطير وتأمين هذا المسار للوصول إلى مؤسسات شرعية ومنتخبة ديمقراطيا وذات مصداقية). وفي ظل تسويق إعلامي خاطئ لنمط الانتقال الذي تقترحه أرضية مزفران، فإننا سنورد هنا تذكيرا بالأنماط الأربعة التي شهدتها أكثر من 100 دولة في العالم، حيث اختارت أرضية مزفران أأمن وأنجح وأضمن نمط، وهو (الانتقال من خلال التفاوض بين النخبة الحاكمة وقوى المعارضة) (Negotiated Transition)، على اعتبار أن أنماط الانتقال أربعة كما جاء في بعض الدراسات النظرية، وهي: الانتقال من أعلى (Transition from Above) هو انتقال تقوده وتهندسه القيادة السياسية أوالجناح الإصلاحي في النخبة الحاكمة، أي أنه انتقال يتم من داخل النظام القائم. وعادة ما تبدأ عملية الانتقال عندما تتوفر عوامل وأسباب موضوعية تؤثر سلبا على شرعية السلطة، وتخلق لدى النخبة الحاكمة قناعة مفادها أن كلفة الانفتاح والتحول الديمقراطي أقل من كلفة الاستمرار في الممارسات التسلطية. وفي بعض الحالات كان للجناح الإصلاحي داخل النخبة الحاكمة دور كبير في عملية الانتقال. ومع الأخذ بعين الاعتبار حقيقة وجود تباينات بين تجارب الدول التي شهدت انتقالا ديمقراطيا من أعلى، فإنه يمكن القول: إن عملية الانتقال طبقا لهذا المسلك غالبا ما تتم بإحداث تحول تدريجي للنظام السياسي عبر مراحل متعددة ومتداخلة، تبدأ بالتحرك على طريق الانفتاح السياسي، ويكون ذلك مقدمة للانتقال الديمقراطي. وقد تأتي بعد ذلك مرحلة أخرى تتمثل في ترسيخ الديمقراطية. وبصفة عامة، فإنه في ظل حالات الانتقال الديمقراطي من أعلى غالبا ما يكون ميزان القوى لصالح النخبة الحاكمة، فيما تتسم قوى المعارضة بالضعف، ومن ثم محدودية القدرة على التأثير في إدارة عملية الانتقال، ومن بين الدول التي شهدت انتقالا ديمقراطيا من أعلى: إسبانيا والبرازيل. الانتقال من أسفل: (Transition from Below) يأخذ هذا النمط للانتقال شكلين رئيسيين. أولهما، الانتقال نتيجة لتكثيف الضغوط على النظام الحاكم من خلال التظاهرات والاحتجاجات الشعبية، بحيث تجبر النظام في نهاية المطاف على تقديم تنازلات تفتح الطريق للانتقال الديمقراطي على غرار ما حدث في كل من الفلبين وكوريا الجنوبية والمكسيك. وثانيهما، الانتقال الذى تقوده قوى المعارضة على أثر انهيار النظام غير الديمقراطي أو إطاحته بواسطة انتفاضة أو ثورة شعبية، ففي أعقاب ذلك تبدأ مرحلة تأسيس نظام ديمقراطي جديد يحل محله. وبصفة عامة، يعكس هذا النمط من الانتقال حدوث خلل كبير في ميزان القوى بين الحكم وقوى المعارضة لصالح الأخيرة، وبخاصة في حالة انهيار شرعية السلطة، وتصدع النخبة الحاكمة، وتخلى الجيش عن مساندة النظام التسلطي، ووجود تأييد شعبي واسع للمعارضة. وعادة ما تتوافق قوى وأحزاب المعارضة على خطوات وإجراءات لتأسيس نظام ديمقراطي على أنقاض النظام التسلطي، وقد حدث الانتقال وفقا لهذا النمط في بلدان عديدة من بينها: البرتغال واليونان والأرجنتين ورومانيا. الانتقال من خلال التفاوض بين النخبة الحاكمة وقوى المعارضة (Negotiated Transition): يحدث الانتقال هنا على أرضية اتفاق أو تعاقد (Pact) يتم التوصل إليه عبر المفاوضات والمساومات بين النخبة الحاكمة وقوى المعارضة. وغالبا ما يأتي ذلك كمحصلة لوجود نوع من التوازن النسبي في ميزان القوى بين الطرفين، فالنخبة الحاكمة تصل إلى قناعة مفادها أنها غير قادرة على الاستمرار في السياسات المغلقة والممارسات القمعية بسبب الضغوط الداخلية والخارجية، وأن كلفة الانفتاح السياسي والانتقال إلى صيغة ما لنظام ديمقراطي ضمن اتفاق مع المعارضة يضمن بعض مصالحها -أي النخبة الحاكمة- هي أقل من كلفة الاستمرار في السياسات غير الديمقراطية، سيما إذا تزايدت الضغوط الاجتماعية وانكشفت عورة المشاريع والبرامج الوهمية التي وعدت السلطة بتحقيقها للساكنة، سيما في الدول الريعية التي تعتمد على مداخل البترول في تمويل البرامج والمشاريع، فماذا تفعل عند انهيار أسعار النفط، كما هو حادث اليوم ؟؟؟. وقد حدث هذا النمط من الانتقال في بلدان عديدة منها: بولندا وجنوب إفريقيا والسلفادور ونيكاراجوا. الانتقال من خلال التدخل العسكري الخارجي (Foreign Military Intervention): غالبا ما ارتبط هذا النمط من الانتقال بحروب وصراعات، تؤثر فيها وتحكمها مصالح وتوازنات داخلية وإقليمية ودولية. وهو يحدث في حالة رفض النظام الحاكم للتغيير، وعدم بروز جناح إصلاحي داخله، وعجز قوى المعارضة عن تحديه وإطاحته بسبب ضعفها وهشاشتها نتيجة لسياساته القمعية. وفى ظل هذا الوضع لا يكون هناك من بديل لإطاحته والانتقال إلى نظام ديمقراطي سوى التدخل العسكري الخارجي الذى يمكن أن تقوم به دولة واحدة على نحو ما فعلت الولاياتالمتحدة الأميركية في كل من جرينادا وبنما في ثمانينيات القرن الماضي، أو تحالف يضم مجموعة من الدول على غرار الحرب التي قادتها واشنطن بمشاركة دول أخرى ضد أفغانستان في عام 2001، وضد العراق في عام 2003، وليبيا سنة2011. وعادة ما يحدث التدخل العسكري الخارجي لأسباب وذرائع مختلفة منها إلحاق الهزيمة بنظام ديكتاتوري، والتدخل لأسباب إنسانية، ووضع حد لحرب أهلية طاحنة…إلخ. ويُلاحظ أنه في غالبية حالات التدخل العسكري الخارجي لم يكن هدف تأسيس نظام ديمقراطي هو الهدف الرئيس أو المبدئي، بل كانت هناك أهداف ومصالح أخرى. وإذا كان الانتقال الديمقراطي من خلال التدخل العسكري الخارجي قد نجح في بعض الحالات كما هو الحال في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، فإنه فشل في حالات أخرى كثيرة أحدثها أفغانستانوالعراق وليبيا. وقد اهتمت دراسات عديدة بتفسير ظاهرة فشل التدخل العسكري الأجنبي في تحقيق الانتقال الديمقراطي في عديد من الدول. وبصفة عامة، فقد أكدت خبرات وتجارب الانتقال الديمقراطي على أن طريقة الانتقال تؤثر على نوعية أو طبيعة النظام الديمقراطي الوليد، وعلى فرص واحتمالات استمراره وترسخه في مرحلة ما بعد الانتقال، حيث أن الانتقال السلس والسلمي الذى يتم بمبادرة من النخبة الحاكمة، أو من خلال التفاوض بين الحكم والمعارضة، غالبا ما يكون مصحوبا بدرجة أعلى من الديمقراطية، وفرص أفضل لاستمرار وترسخ النظام الديمقراطي الناشئ. وبالمقابل، فإن الانتقال العنيف يكون في الغالب مقرونا بدرجات أدنى من الديمقراطية، وفرص أقل لاستمرارية النظام الديمقراطي واستقراره، بل إنه تزداد في مثل هذه الحالة احتمالات الارتداد إلى شكل من أشكال التسلطية، أو وقوع البلاد في صراع داخلي أو حرب أهلية، أما الانتقال الناجم عن التدخل العسكري الخارجي، فقد نجح في حالات قليلة، وفشل في حالات أخرى كثيرة، وقد كان لكل من النجاح والفشل ظروف ومعطيات خاصة. وقد اختارت أرضية مزفران الخيار الثالث أي (الانتقال من خلال التفاوض بين النخبة الحاكمة وقوى المعارضة (Negotiated Transition) وهو أأمن وأنجح أنماط الانتقال في الحالة الجزائرية، ولكن خطاب السلطة وبعض وسائل الإعلام تعتمد خطاب التخويف والتخوين ووصف المعارضة بكل أوصاف التآمر على البلاد بغرض تعميق الاستخدام المفرط لآثار المأساة الوطنية على الجزائريين …. وقد انطلى ذلك الخطاب على الكثير من الكتاب والإعلاميين والرأي العام للأسف الشديد من خلال التعمد في استخدام بعض التصريحات السياسية التي لا تلزم الأرضية بقدر ما تلزم أصحابها ولاسيما تلك المتعلقة بدور الجيش والحديث عن مرحلة انتقالية لم تطرح أو تتحدث عنها الأرضية …… يتبع….