باريس وردة ذهبية في حديقة الكون، غرستها يد الملائكة كنجمة في صدر السماء، لتنعش الحياة بالعطر والبهاء، كزجاجة عطر ملقاة على حافة الزمن يمتد شذاها في المعمورة.. باريس قيتارة الإنسانية ولوحة الخالق الخالدة.. مدينة مهوسة بالحب والجمال كمراهقة لا ينقصها الغباء، تخفي أسرارها في دفتر بلا أوراق، تضحك كغجرية مثقلة بالجمال والجفاء، وضحكها يشبه البكاء، تنام ليلا مع الشياطين والزيف وتصلّي مع الحقيقة والملائكة في الصباح… باريس عروس تحوم في الفضاء، لا تشبه مدن الاسمنت والخشب، لذلك تغار منها مدن الأرض وحتى النساء. وتكدّ كفلاحة لتدسّ من قمحها لليالي الشتاء ثم تمدّ كفّها فيأكل منه النمل والصرصور والطيور. باريس مدينة الضياء والفنون والآداب والجمال والموضة وبيت الشعر والعطر، وسكن هيجو وبلزاك وبودلير ونابليون وميدان الثوار ونادي سان جرمان؟!… لباريس وجه سياسي لا يشبهها ولا يشبه الصفاء.. لكنه يظهر عاريا في المرآة، مجنونة في الحب مجنونة في الحرب، ترفع يديها بالدعاء من أجل السلام صبحا، وفي المساء تقصف الأحياء.. تنظم قوافل الحكّام عندنا، في الصحراء كمعلّمة في قسم إفريقي ألوانه زرقاء وعلى رؤوس تلاميذه قبعات مختلفة الألوان، تعلّمهم الوقوف في الصفّ والجلوس على الكراسي، وتمنحهم الرعاية والحماية مقابل الطاعة والولاء. باريس مدينة نائمة في حضن التاريخ، تبسط وجهها لكل ضيف كمائدة فاخرة على ضفاف نهر السين، وتفتح أبوابها كحديقة زاهرة تهدي زائرها مايشاء من ألوان،،، باريس مدينة أتعبها الغرباء، وتعب منها هؤلاء الذين فاضت بهم أوطانهم فاختاروها ملجأ للحب والآمان فمنحتهم الجفاء، يرسمون أحلامهم على جبينها كال صبح لتمتص رحيقهم في المساء… حرارة العواطف والمناخ في باريس متشابهان تأخذ من عقلك وجيبك ووقتك، وتظلّ بعيدة عن الوجدان كامرأة حسناء فاقدة الحنان أوكبرج إيفل نراه متطاولا في السماء لكنه حديد وعمقه في الماء. وجهها الطفولي يعتريه الخجل من أفعالها فيحمرّ من الحياء… من لا يعرف باريس ضيّع نصف عمره، ومن عشقها عمره كلّه ضاع… أحسست عند الخطوة الأولى على أرضها بأنها كانت تنتظرني منذ عصر التنوير يوم أضيئت شوارعها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، عندما قام البارون هوسيمان Haussmann في عهد نابليون الثالث بتحديث أحياء المدينة باعتبارها مدينة النور(La ville de la lumière) مركزا للثقافة والعلوم، كأن هوسيمان يهيئ المدينة لاستقبالي، ها هي باريس أمامي أراها بعيوني من غير نظارات البلغاء والفقهاء والشعراء… شوارعها الطويلة تفتح أحضانها للحياة كل صباح، وتنشر آيات التفاؤل، الأمل، الحب، المتعة، الفرح، ليأتي مساء المدينة مثقلا بالنتائج غير المنتظرة… وبناياتها الشاهقة تمتدّ في انتظام، وعلى سطحها تظهر أشكال هندسية كأنها مساكن الجن تبدو من السماء كلوحة أشباح تربيعية لم يرسمها بيكاسو، وتحت سطح الأرض مغارات متداخلة للميترو، يجري الناس في باطنها على كلّ اتجاه، حتى تخال نفسك في مغارة نمل أوخلية نحل، أوأنه الحشر الأصغر. كلّما أزور باريس استحضر تاريخها وأسأل الشوارع والساحات عن المّارين بها من مئات السنين، أقرأ أسماء الشوارع والساحات بحثا عن أثار جدي موسى الذي كان في قائمة المجنّدين لتحرير باريس من الجيش الألماني بداية الحرب العالمية الثانية، كما أبحث عن مصادر الضياء في عاصمة الأنوار والجن والملائكة، قد توجد ملائكة الرحمة في المستشفيات، وهل يكون الجنّ غير الإلهام الذي يسكن أهل الفن فيبدعون، وأهل السياسة فيغامرون بالحرب، كما حدث بالجزائر، حيث صدّرت لنا هذه المدينة الرائعة قرارات سيئة شرّدت أسرتي بين الشعاب والوهاد، تحت قنابل الطائرات التي أحرقت بيتنا في بني ميسرة، المنطقة المحرّمة وأنا في عامي الأول، ثم الإقامة بمحتشد "يماحليمة" الى غاية الاستقلال، خلال ذلك كنت في السابعة من عمري، وجدت قرب بيتنا كرة تشبه حبّة الرمان حسبتها لعبة هدية من "بابانوال" فبدأت في تفكيكها فانفجرت ونجوت بأعجوبة، كانت قنبلة يدوية نسيها الجيش الفرنسي قبل انسحابه. وهكذا عشت طفولتي المسروقة. وبعد ثماني سنوات صارت علاقتي مباشرة بباريس عبر القسم العربي لإذاعتها الدولية، التي كانت تردّد اسمي كل أسبوع مع الفائزين في مسابقة برنامج تمثيلي.. عنوانه: من هو المجرم؟ كانت الإذاعة واسعة الاستماع في الجزائر لأنها تبث الأغاني الممنوعة في الإذاعة الجزائرية للفنانين أحمد صابر والرّميتي وبلخياطي… فكان سكان القرية ينتظرونها كل مساء، ويندهشون لسماع اسمي عبر الأثير ومن باريس،التي كنت أراسلها… لكني نسيت أن أذكر مرة اسم صاحب محرقة مغارة الظهرة، وروفيقو الذي أباد قبيلة بكاملها…: بوجو وبيجار وأوساريس وسوستال وبيليسي Pellissier وغيرهم؟ وها أنا أزورها المرة تلو الأخرى كخاطب لفتاة مدلّلة… اللقاء الأول كان اكتشافا من غير انبهار في ربيع 1983م، كنت رفقة زميلين عمر وعيسى الأول مدرس علوم بجسمه الضخم وكأنه يختزن ثروات العالم، والثاني عيسى مدرس الفيزياء نحيف الجسم كأنه يعيش مجاعة إفريقيا، سيرهما في باريس يثير توازني، فتبدو مباني المدينة تتمايل يمينا وشمالا! نعم كانت باريس تختال من الحسن، باحثة عن كلّ زائر جديد يضيف لها أوكسجين الحياة والإبداع والحرية؟!! وكان علي أن أسأل عن أصلها وفصلها كعادتنا في بلداننا الجنوبية نهتمّ بالجذور والعظام، يشغلنا الماضي أكثر من الحاضر، لا سيما ماضي المرأة… فإذا أخطأت جدّتها أوجدّها السابع فينبغي أن تدفع ثمنه اليوم… كأن عقدة أمها حواء التي أخرجت أبونا آدم من الجنة تتبعها حتى الآن، فنخاف من بناتها اليوم أن يدخلننا النار!! أخبرتني باريس أنها حفيدة قارة عجوز تدعى أوروبا، وأن اسمها كان (باريسو) وأصله كلمة سلتية (غالية) تعني الشعب العامل أو الحرفي، وكذلك حملت اسم لوتيشيا خلال العهد الروماني، وأن سكانها الأوائل من قبائل "الغال" التي استوطنت ضفاف نهر السين 250 قبل الميلاد. هي باريس مدينة الأحلام والأوهام، كتاب مفتوح تتوزع صفحاته بين الحاضر والتاريخ، بين الحدائق والمعالم، من برج إيفل إلى شارع الإليزيه وقوس النصر وقصر فرساي إلى جامعة السربون إلى كاتدرائية نوتردام… ومن أسوار سجن الباستيل الشهير إلى نهر السين الذي يذكّرني بما حدث يوم 17 أكتوبر 1961م حيث حوّلت شرطة باريس مظاهرة الجزائريين المطالبين بحريّة بلدهم إلى سباحة جثث غارقة في ماء السين الباردة، تطفو مرّة وتغوص أخرى.. وحقّه أن يسمى نهر الشهداء.. الزيارة الثانية دعتني فيها باريس للغداء في مقر بلدية باريس المقاطعة 3… فجئتها ضيفا مشاركا في ندوة موضوعها تجربة كاتب "الجزائربيروت عاصمتا الألم" بمناسبة "سنة الجزائر بفرنسا 2003". نزلت وعائشة رفيقة الدرب والكتابة في مطار أورلي بباريس، كانت نظرات وأسئلة شرطة الحدود بالمطار صارمة، وهي كافية للمسافر ذي الإحساس المرهف كي يندم على رحلته، لكن بعد الاطلاع من قبل شرطة الحدود على وثائق السفر ومعرفة سبب الزيارة تنبسط ملامحهم ثم يصمتون،الفنان والمؤلف والصحفي كلمات سحرية للمرور تفتح لصاحبها الطريق وتكسبه الاحترام هناك… توقفت سيارة الأجرة قرب قصر المعارض في باب فرساي والعياء قد أخذ منّا حقّه، حملنا حقائبنا واتجهنا في رحلة البحث عن أحد الفنادق القريبة التي تكون عادة مملوءة بمناسبة المعرض، ثم توجّهنا إلى صالون الكتاب، عرس الكتاب بدأ..!! حصلنا على بطاقة المؤلفين ودخلنا من الباب الخاص بهم، وكأننا استلمنا مفتاح العاصمة باريس… الجو احتفالي والبهجة ترقص في كل مكان، ومهرجانات القراءة تشدّ عشاق الكتب، مدينة من الكتب بشوارعها وأزقتها تؤثثها دور النشر من كل جهات العالم ومعها مواكب المؤلفين… قصدنا جناح الجزائر.. "ضيف الشرف" الذي أشرفت عليه نقابة الناشرين الجزائريين (SNEL)، لم يكن الوصول إليه ميسّرًا لبعده عن المدخل الرئيسي، وكأنه ضيف غير مرغوب فيه، كان الحفل الرمزي الرسمي قد أختتم قبل وصولنا، ولم نجد في استقبالنا غير بقايا علب كارتونية وزجاجات خمر فارغة، ياللعجب.. السكْر في صحوة العقل!! الحمد لله… وجدت كتبي في الرفوف: رواية الضحية (la victime)، وموسوعة العلماء والأدباء الجزائريين (l encyclopédie de savant et des hommes de lettres Algérien)، موسوعة الأمثال الجزائرية ((l encyclopédie des proverbes algérien، حكايات جزائرية (Les contes Algériens) التي أنجزتها معي عائشة بنور، الحاضرة للبيع بالتوقيع، كتب مترجمة إلى الفرنسية، تشتغل على الموروث الثقافي الجزائري، عّلها تعيد للقراء ذاكرة الحنين للماضي، خاصة المهاجرين الذين كانوا يقبلون عليها وعيونهم تفيض شوقا…. وجاء يوم الندوة 23. 03. 2003 م التي نظّمها معهد دراسة الإسلام ومجتمع العالم الإسلامي. (Institut d Etudes de l Islam et de Sociétés du Monde Musulman) في قاعة الحفلات بمقر بلدية المقاطعة 3 باريس 75003، مدير المعهد السيد دانيال ريفي Daniel rivet (جامعة باريس1) أشرف عليها، وجيلي لكراني gilles lakrani والحاج ملياني حضّراها، كان معنا الصديقان: الناقد حبيب مونسي والشاعرة زينب الأعوج ولبنانيون منهم ماي مناسة وغسان فوزي وصبحي بستاني، وتدخّلت متحدّثا عن تجربتي ككاتب يعيش في مثلث الموت أضلاعه الإرهاب، السلطة.الجهل… الزيارة الثالثة لباريس في مارس 2011م جئنا باريس كالعادة التي ستصبح قانونا، موسم عرس الكتاب قد أقبل فكيف لا نحضره؟! فضّلنا ركوب الحافلة من المطار إلى وسط باريس سياحة واقتصادا، وشاء القدر أن تتأخر الحافلة لتوقّفها في منتصف الطريق بسبب إجراءات أمنية اتخذت بعد إنذار بوجود طرد مشبوه خارج المطار. وقّّّّعت في هذا الصالون كتابين جديدين الأول "انطباعات عائد من مدن الجمال" في أدب الرحلات، والثاني تاريخ مصوّر للحرب الجزائرية الفرنسية فيه مشاهد تعذيب الجيش الفرنسي للجزائريين مع تعاليق خاصّة، أمّا رفيقتي فقد وقّّعت إحدى رواياتها الأخيرة، كانت مؤلفاتنا سفيرة الحرف العربي الوحيدة في الصالون.. الأنشطة الثقافية المختلفة في الصالون كانت كربيع ينشر أزهاره بين أجنحة العرض،حيثما وليت وجهك يلفحك نسيم المعرفة، منبر ثقافي، ندوة للمؤلفين أوحوارات إعلامية، أما الأطفال فصالون الكتاب عيدهم، وفرحتهم بالكتب المرسومة تصنعها التسلية والحكايات والأنشطة الترفيهية الأخرى، ولا يوجد حاجز نفسي بينهم ومتعة الكتاب، وحتى عالم الكبار يقدس الكتاب، فقد ترى من يطالع وهو جالس على الأرض أو هو في الحافلة أوالميترو أوالقطار، والمطالعة مرض صحي عدواه تنتقل بين الأشخاص في كل مكان.. الجالية العربية تتمتع بمناعة قويّة ضد هذه العدوى الحميدة، والشاهد على ذلك غيابها الملحوظ عن صالون الكتاب باستثناء بعض الأسماء في البحث والتأليف والإعلام مثل: مالك شبّال وياسمينة خضرا وصادق سلام وسعدي بزيان ومحمد الزاوي وبوعلام رمضاني.. وغيرهم. خارج الصالون الدولي للكتاب باريس تمدّ لك يدها… تساعدك في الوصول حيث تشاء إلى المكتبات والمتاحف والمعالم الثقافية والساحات… مثل مقر اليونيسكو وساحة لاكونكورد أكبر ساحة بباريس… ومسجد باريس الذي بدأ في استقبال المصلّّين عام 1926م.. وفي متحف اللوفر تنشر باريس أريجها الممزوج بعبق التاريخ… إنه مجمّع الثقافات والحضارات الشرقية والغربية، متحف اللوفر بطوابقه وأجنحته المتعددة معلم حضاري كبير يختزل التاريخ ويعرض أمامك في لحظات شريط الماضي.. يفتح أمامك نوافذ الزمن الغابر فتطّلع على حقائق وأسرار في الأمم، هذه الحضارة الفرعونية والبابلية مجسّدة أمامك في التماثيل.تحف ثمينة جاءت إلى اللوفر وكأنها لاجئة تبحث عن الآمان، وفي جناح أخر لوحات عملاقة تصّور الحياة الاجتماعية للجزائريين أثناء الدخول الفرنسي 1830م للرسام الكبير دولا كروا وهذه لوحة الموناليزا التي مزجت ابتسامتها بحزن دفين، وعلى الزائر أن يميّيز ملامح البسمة في غموض نظرتها، وكأنّه يستخرج التبر من التراب.. وبعيدا عن اللوفر تشتمّ نسائم الشرق المعاصر تسري في بناية معهد العالم العربي، المنارة التي تشعّ بالثقافة المشرقية، في مكتبتها ومواسمها الثقافية… هذه باريس مدينة المعرفة. لا تفارقها قبل أن تسجّل في دفترك: رأيت شعبا متحضرًا، المطالعة هوايته والعقلانية منهجه والنظام سلوكه، مجتمع يدخل عالم الرقمنة في حياته وسلوكاته اليومية. اليوم الأخير.. باريس لم تغرني بالبقاء، مدينة أتعبها عشق الغرباء لأنهم دائما على سفر، لذلك لم تتجاوب معي، بل حاصرتني فيها قسوة المدينة وجراح الذاكرة مسرحية لا بدّ من إيقافها فقرّرت الرحيل، وها أنا كرجل بدوي يبحث عن الاخضرار وزقزقة العصافير وطلاقة الهواء… سأغادرها إلى مدينة هادئة تمنحني دفء الجنوب وروعة الاخضرار… يتبع…