حل إشكالية النخبة والجماهير في سياق التربية والتكوين: ومن جهة أخرى، فقد أدركت الحركة أن من واجبها توسيع نطاق قاعدتها الشعبية وكمّها العددي، لكي تستطيع منازلة الأحزاب والحركات السياسية الأخرى، لكن إشكالا تنظيميا كان يفرض نفسه كلما تبنت الحركة هذا الخيار، وهو إشكال الازدواجية القيادية والتنظيمية، وقد استطاعت الحركة التغلب على ذلك من خلال الفصل بين القيادة السياسية والقيادة الإدارية =. يشرح لنا حسن مكي ذلك، من خلال مثال "جبهة الميثاق الإسلامي" في الستينات، فيقول: "لما كانت مقاييس حركة الإخوان مقاييس صفوة، وحركة "جبهة الميثاق" حركة جماهيرية واسعة توجهت لكل المتعاطفين دون تقييدهم بقيود التنظيم الخاص، أحدث ذلك ربكة من الذين لا عهد لهم بحركات الجماهير، مما حرك روح المحافظة على التنظيم من تحدي الهجمة الجماهيرية الجديدة، فكان هنا أن تمت تسوية داخلية، انتهت بأن يعالج حسن الترابي، أمر الحركة الجماهيرية (السياسة)، وأن يتوفر أخ لقيادة التنظيم الداخلي. ووقع العبء على مالك بدري، ولكن ما لبث أن سافر هذا الأخير إلى بيروت، فخلفه محمد صالح عمر". وفي مرحلة تالية – أيام "الجبهة الإسلامية القومية" – يصف لنا الدكتور عبد الوهاب الأفندي، إستراتيجية الفصل والوصل في شكلها الجديد، فيقول: "لقد قسّم المكتب التنفيذي القديم إلى هيئتين: مكتب سياسي ومكتب إداري يقود كلا منهما قائد مسؤول أمام الأمين العام. وبينما كان المكتب السياسي يتعامل مع القضايا السياسية العامة، كان المكتب الإداري مسؤولا عن الإدارة اليومية للحركة (العضوية، التمويل، الاكتساب ... إلخ). ومن أجل تحرير وجوه الحركة المشهورين من عبء إدارتها، تولى نشطاء من الشباب المغمور هذه المهمة"، وبهذا نجحت الحركة في الإبقاء على هيكلها التنظيمي السري قائما، وهي تعمل من خلال جبهة جماهيرية علنية، كما نجحت في تفريغ القيادة العليا للمهمات الإستراتيجية، وفرغت أهل كل شأن لشأنهم. ولتجسيد هذه الخيارات أقدمت الحركة على تبني خيار الفصل بين التربية والتكوين أيضا، نظرا لما رأته من تمايز بين الأمرين، وهو تمايز يمكن إجماله في الأمور التالية: 1. أن مهمة التربية أخلاقية مبدئية، وهي "تعزيز الصبر والاستقامة في حال الاستضعاف والتمكين"، بينما مهمة التكوين منهجية عملية، وهي "التأطير المهني للأعضاء"، فهدف التربية هو الالتزام، وهدف التكوين هو الفاعلية. 2. أن التربية موجهة إلى عموم المجتمع، وليست مقصورة على أعضاء الحركة، بينما التكوين يتجه إلى الأعضاء الذين ثبت ولاؤهم حصرا. 3. أن للتربية وظيفة اكتسابية – أو هكذا ينبغي أن تكون – بينما التكوين لا يهدف إلى اكتساب أعضاء جدد بشكل مباشر. 4. أن للتربية وظيفة دعوية تهدف إلى زيادة مساحة الخير والفضيلة في نفوس أفراد المجتمع، حتى ولو لم ينضموا إلى الحركة، بينما التكوين يقتصر على تعميق خبرة الأعضاء. 5. أن مضمون التربية يتعلق بالفضائل الإسلامية العامة، وزيادة العلم الشرعي لدى السامعين، وتعميق التزامهم بالإسلام، بينما يركز مضمون التكوين على الخبرات السياسية والإدارية والفنية التي يحتاجها العضو العامل في مسيرته. وبناء على هذه الفروق، تبنت الحركة الإسلامية في السودان ثلاثة ضوابط في تربية أعضائها: شمولها وإيجابيتها منهجا، وانفتاحها وعمومها إطارا، وحريتها ومرونتها فلسفة". وباختصار، فإن الحركة "خرجت بتربية أعضائها نحو مشاركة المجتمع لتنفع وتنتفع بالتفاعل". ومن هذه المنافع لأعضاء الحركة "أن تكون ثقافتهم متفاعلة مؤثرة في تيار الثقافة العامة بالبلاد، ولتكون الشعائر في جماعات أكبر، وذلك أفضل حكما، وأدعى للتعريف بالجماعة، ولتعزيز مكانتها وإمامتها للمجتمع". وقد أفاد هذا الفصل الوظيفتين معا: فاتسعت التربية وأدت مفعولها في المجتمع باعتماد على منهج الترفق والتدرج والاستيعاب في التعامل مع القوى الاجتماعية المختلفة، فلم تفقد الثقة بالجماهير، ولم تقف منها موقف عداء واستعلاء، وكانت عملية في صلتها بالمجتمع، فتبنَّت فلسفة تحريك كوامن الخير في المجتمع وتشجيعها مهما لابسها من غبش، والوقوف في وجه الشر وحرمانه من فراغ يتمكن فيه، وتم تأمين التدريب الفني وحصره في أهله. * التكامل القيادي طريق نحو توظيف الجميع: وحرصا على تشييد بناء قيادي سليم، تبنت الحركة في السودان مبدأ "التكامل القيادي" الذي يستمد أساسه النظري من شمول الإسلام، بحيث تعم مبادئه كل جوانب الحياة النظرية والعملية: ثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية، ومن عموم الدعوة بحيث تشمل كل طوائف المجتمع، وتنعم بها مختلف مكوناته دون احتكار أو تحيز عرقي أو طائفي أو طبقي. ويوجز لنا الدكتور الترابي، بعضا من ثمرات التكامل القيادي وأسباب حرص الحركة السودانية عليه فيما يلي: 1. "ضمان عدالة التمثيل وشمول القيادة، بحيث يكون فيها من ينطق بلسان كل قوم ويبلغهم رسالة الجماعة". 2. "خشية أن تعتل القيادة طبقيا في همومها ومذاهبها وأساليبها، أو تفتقد العدل والاعتدال والوسطية والتيسير". 3. "حتى لا تتشوه صورتها أو وجهتها، بل حتى لا يتشوه مغزى الدعوة والحركة الإسلامية" من حيث عموم التوجه والرسالة. 4. تجنب المواقف السلبية غير المتجاوبة من طرف القاعدة، تلك المواقف "التي قد تنشأ من ظن احتكار القيادة لجيل دون جيل، أو صفوة مخصوصة، أو طبقة أو فئة معينة". ولتحقيق الشمول والتكامل القيادي حرصت الحركة – بعد تجاوز طور التأسيس – أن تضم أجهزتها القيادية ممثلين للفئات السبع التالية:أهل السبق والخبرة، و أهل الشباب والتجديد، أهل الدعوة والخطاب، أهل العطاء والتنظيم الداخلي، أهل السمت الديني التقليدي، أهل الثقافة الحديثة، أهل التمثيل المخصوص. ورغم ما حدث في السودان، فالحركة الإسلامية لم تفقد أبدا الثقة في الجماهير المسلمة، ولم تقف منها موقف عداء واستعلاء، كما فعل البعض، بل أدركت أن المجتمع المسلم – مهما انحرف – تظل فطرة الخير مركوزة فيه، وأن خير ما يفجر تلك الفطرة الكامنة هو التفاعل معها، لا الإنزواء عنها أو الاستعلاء عليها. وكانت الحركة عملية إلى حد بعيد في صلتها بمجتمعها، فهي تقدر كوامن الخير فيه وتشجعها ولو لابسها غبش، وتقف في وجه الشر، ولا تترك له فراغا يتمكن فيه. * موقع الحركة من الفئات النوعية السبعة (شريحة التغيير) لقد حددت بوضوح وفاعلية موقفها من سبعة فئات نوعية في المجتمع أولها الأحزاب التقليدية، حيث تعتبر الحركة أن قاعدة الأحزاب التقليدية السودانية (حزب الأمة، والحزب الاتحادي ..) هي بالنسبة لتوصيف الحركة قاعدة إسلامية تاريخيا، ينقصها الوعي، وتستغلها قياداتها في تحقيق مصالح شخصية وطائفية، فهي ليست قوى علمانية إديولوجية، بل هي "قوى الإسلام الفاقدة للوعي بذاتها"، حسب تعبير الدكتور حسن مكي. كما أن الحركة بحاجة إلى "الاستظهار" مرحليا بهذه القوى التقليدية، تجنبا للانكشاف السياسي، حتى تتحول إلى قوة مستقلة قادرة على المغالبة والأخذ بقوة. وقد ورد بيان لإستراتيجية الاستظهار هذه في وثيقة "العلاقات السياسية النظامية للحركة الإسلامية " الصادرة عام 1975، حيث جاء في الوثيقة: "ولا مناص للجماعة من الاستظهار باسم "الجبهة الوطنية"، ما دام نفوذها الفئوي – والجماهيري خاصة – ليس اليوم كافيا". وألمح مكي إلى المغزى من هذه الإستراتيجية في إشارته إلى "محاولات الحركة الإسلامية للبحث عن الحلفاء المرحليين، لتخفيف الضغط، وتفادي المجابهة قبل أن يكتمل بناؤها"، أما الفئة الأخرى فهم الطلاب، حيث نشأت الحركة الإسلامية على أيدي جماعة من الشباب الطلاب، وكانت الحركة دائما أكثر تحيزا لهذه الطائفة "فكان الطلاب هم محور كل الحركة الإسلامية"، "إذ استصحبتْ تقديرا بأن الطلاب هم رواد المستقبل، فالعمل فيهم ضمان لمستقبل إسلامي"، وهو أمر أثر على خطاب الحركة ومسارها، كما لاحظ محمد محمود، فقال: "إن طبيعة خطاب الحركة في طور النشوء صاغتها إلى حد بعيد جذورها الطلابية". أما الفئة الثالثة فهي العلماء، حيث لم تجد الحركة السودانية عائقا كبيرا أمام التحامها بعلماء الشرع، ودمجهم في نهجها الإصلاحي الشامل "بالرغم من أن الإسلامي الحديث مباين من حيث الملبس والمسلك والمنطق لنمط العالم التقليدي، وليس دائما بذي علم أو عمل بالمذهب المالكي السائد بين العلماء [في السودان]". أما الفئة الرابعة، فهي السلفية حيث تعتبر الحركة السلفية من أهم الحركات الإصلاحية في العالم الإسلامي اليوم، وقد كان للحركة وجودها في السودان، وصوتها الداعي إلى تحرير الدين من شوائب العرف وبدع الخلَف، والذي عبرت عنه "جماعة أنصار السنة"، "وقد كسبت تلك الجماعة قليلا من الأنصار وكثيرا من التأثير، بنشاط دعوتها وقوة حجتها". وقد أدركت الحركة الإسلامية في السودان أن خلافها مع الحركة السلفية خلاف منهجي لا مبدئي، ولذلك حرصت على تجنب الصراع والاستقطاب في علاقتها بالسلفيين "فلم تكن بين الإسلاميين والسلفيين مفارقة فكرية أو نفسية تذكر، فلما دعا داعي "الجبهة الإسلامية" العريضة لجمع الصف المسلم في وجه المتكاثر من العداء للدين .. لبى الدعاءَ جانب كبير من السلفيين، وأحجم جانب". أما الفئة الخامسة فهي الحركات الصوفية، حيث نشأت الحركة السودانية – شأنها شأن أغلب الحركات الإسلامية الحديثة – بعيدا عن أجواء التصوف ومقولاته، ولم تكن العلاقة بينها وبين الصوفية علاقة حسنة في البدء، فالمنحى التجديدي لدى شباب الحركة يميل بهم إلى الرجوع إلى أصل الدين ومنابعه الأولى، وإلى التجافي عن طرائق التدين العرفية التي شابها بعض الغبش والبدع، لكن فقه الحركة فقه إصلاحي مبني على استثارة مكامن الخير حيثما كانت، ولو لابسها بعض انحراف، لذلك توصلت إلى أنه "مهما يؤخذْ على واقع الصوفية من بدعيات وجهالة في الاعتقاد والعمل، فلابد من التعاطي معها فيما هو صحيح وسليم ويبني الصورة الكاملة". والفئة السادسة فهي فئة النساء، فالحركة الإسلامية في السودان أدركت مساوئ الموقف التقليدي المتوجس من المرأة في أجواء معارك تحريرها من طرف الغرب ونخبهم في العالم الإسلامي، فقررت الابتعاد عنه، ونحت منحى جريئا ينسجم مع منهج الإقدام والتوكل الذي انتهجته في شأنها كله. وكان أول ما بدأت به الحركة هو التأصيل لتحرير المرأة ومشاركتها في العمل الإسلامي، ووضع حد فاصل لا لبس فيه بين "تعاليم الدين وتقاليد المجتمع". وقد تولت ذلك رسالة كتبها الترابي بعنوان "المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع". ورغم إيجاز الرسالة، فقد تضمنت التنبيه إلى بعض الأمور الجوهرية، التي غابت عن إدراك الكثير من الإسلاميين، أو فقدت مدلولها العملي في تفكيرهم. لقد أثمر فقه الحركة الإسلامية في السودان ومنهجها في تحرير المرأة ظواهر لافتة للنظر، لا يوجد لها مثيل في الحركات الإسلامية الأخرى، منها على سبيل المثال: * *كان من بين الإخوان الذين اعتقلهم النميري "د. سعاد الفاتح البدوي، والتي صارت بذلك أول معتقلة سياسية في فترة ما بعد الاستقلال"، ويكفي ذلك دليلا على مستوى المشاركة والإيجابية للمرأة، و"دورها الذي فاق دور الرجل في الحركة الإسلامية"، حسب تقدير الترابي (أهم من ذلك أن الحركة النسائية الفئوية الممثلة فى اتحاد نساء السودان أسستها كوادر نسائية إسلامية في العام 1952 وقادتها فاطمة طالب مع سعاد الفاتح، زينب الفاتح، عزيزة مكى، نفيسة المليك وأخريات، بينما تأسس الاتحاد النسائي اليساري في 1956 رد فعل للاتحاد نساء السودان وقادته فاطمة أحمد إبراهيم، أول نائبة فى البرلمان السودانى 1964). * "طغى عدد الإناث في الحركة الإسلامية السودانية على الذكور"، خصوصا في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، وتلك ظاهرة فريدة تستحق الاعتبار، خصوصا لو قارنا مع بعض الحركات الإسلامية التي لا تزال ناديا للذكور تقريبا، بل ذهب الأمر ببعضها إلى رفض عضوية أي امرأة غير متزوجة – دون مستند شرعي- كما فعلت "الجماعة الإسلامية" بباكستان أول عهدها. * كانت الجبهة الإسلامية القومية – حزب الحركة الإسلامية في السودان – هي الحزب السياسي الذي رشح أكثر عدد من النساء بين الأحزاب، فالأحزاب الأخرى رشحت نساء ولو بصورة رمزية. ولم تغفل الحركة الإسلامية السودانية فئة خاصة ومهمة وهي القبائل والعشائر، حيث لم تهتم الحركة – بدء أمرها – بالقبائل وأهل البادية، إذ هي صفوة من المثقفين ثقافة عصرية "فكان هذا العالم العرفي خارج وعيها وهمها، وكان أهله خارج صفها وكنفها"، كما كانت دائما "مراكز الثقل التأييدي [للحركة] تقع في المناطق الحضرية"، لكنها أدركت في النهاية أن منهج التوسع الكمي يقتضي الاهتمام بهؤلاء، وأن لهؤلاء – كغيرهم – حقا في الدعوة، فكانت لها بعض المداخل إلى القبائل والعشائر تتناسب مع عقلية أبناء الريف ومستوى وعيهم: * فأحيانا يفلح أبناء الحركة من الطلاب والخريجين والحضريين – بفضل علمهم وقرابتهم – في أن يحوزوا ثقة أهلهم، فيُدْلوا بهم إلى الولاء للحركة. * وأحيانا تستجيب قيادة قبَلية أو قروية بما أوتيتْ من التدين لداعي الحركة، فتتداعى بأهلها إليها. * وأحيانا يواتي الحركة نمط الصراع القبلي، فينحاز إليها البعض مجانبة للآخرين. * وربما انجذب أهل الريف إلى الحركة رغبة في خدماتها الاجتماعية المبسوطة .." كما انتبهت الحركة إلى فئة المسيحيين، حيث بدأت الحركة الإسلامية محصورة في أبناء الشمال السوداني المسلم، وهو ما كانت تقضي به طبيعة الثقل الثقافي الإسلامي في الشمال، وتقتضيه خصوصيات مرحلة التأسيس، ثم أدركت الحركة في طور التوسع والنضج أن الغفلة عن الجنوب غير المسلم لا يتناسب مع حقوق أخوة الوطن، ومستلزمات عالمية الإسلام، فبدأت الحركة التأصيل الفقهي والممارسة العملية لإستراتيجية جديدة تجاه مواطني جنوب السودان غير المسلمين، تحاول دمجهم في الحياة السودانية، على أساس مبدإ البر والقسط، وضمنت ذلك في الدستور كحقوق. كما دخلت الحركة حلبة الصراع العمالي بقوة في الستينات والسبعينات، مدافَعة للشيوعيين. واستطاعت أن تعزلهم، وتنزع القيادة النقابية منهم، بالتحالف مع الأحزاب التقليدية. وقد شاركت الحركة في تأسيس "اتحاد النقابيين الوطنيين" خلال مؤتمر 21 /2 /1965 النقابي "منافسة ل"اتحاد العمال" الذي سيّطر عليه واستتر به الشيوعيون"، "وكان المؤتمر عبارة عن تحالف بين النقابيين والإخوان والعناصر الوطنية الأخرى الموالية للأحزاب التقليدية"، واعتمد المؤتمر ضمن أهدافه المعلنة "إبعاد الشيوعيين عن الحركة النقابية".