تعتبر السودان في خريطة عالمنا العربي والإسلامي من أكبر الدول مساحة قبل التقسيم وسلة الغذاء في إفريقيا، وهي من أغنى وأخصب أراضي العالم في الزراعة، اُكتشف فيها مؤخراً كميات هائلة من البترول، ومثلها من اليورانيوم في شمال دارفور، ولهذا لم تنعم بالاستقرار، بل تشعل النزاعات في أنحائها باستمرار وصولا، إلى تقسيم هذه الأرض إلى أربع دويلات.. دولة في الغرب (تسمى دارفور) ودولة في الشرق، ودولة في الجنوب ودولة في الشمال (في جنوب مصر). وفي السودان منطقة دارفور، تلك المنطقة التي عرفناها من خلال أخبار الحرب الأهلية وميليشيا الجنجويد، ونظنها أرضاً جرداء قاحلة في غرب السودان، والحقيقة أنها كانت منذ عام 1898م وحتى عام 1917م سلطنة مسلمة، لها سلطان اسمه علي بن دينار، وهذا السلطان لما تأخرت مصر عن إرسال كسوة الكعبة أقام في مدينة الفاشر (عاصمة دارفور) مصنعاً لصناعة كسوة الكعبة، وظل طوال عشرين عاماً تقريباً يرسل كسوة الكعبة إلى مكةالمكرمة من الفاشر عاصمة دارفور. هذه الأرض تبلغ مساحتها ما يساوي مساحة فرنسا، ويبلغ تعداد سكانها 8 ملايين نسمة، ونسبة المسلمين منهم تبلغ 100%، والذي لا نعرفه عنها أن بها أعلى نسبة من حملة كتاب الله عز وجلّ موجودة في بلد مسلم، هي نسبتهم في دارفور، إذ تبلغ هذه النسبة ما يزيد عن 20% من سكان دارفور، يحفظون القرآن عن ظهر قلب، حتى أن مسلمي إفريقيا يسمون هذه الأرض " دفتي المصحف". ولأسباب عديدة كانت السودان منذ أكثر من عشرين عاما محل أطماع صهيونية لتقسيمها إلى أربع دول هي: دولة في الغرب (تسمى دارفور)، ودولة في الشرق، ودولة في الجنوب، ودولة في الشمال (في جنوب مصر)، فحدثت الكثير من الحروب والصراعات حول هذه القضية، وحصل ما حصل فقد انفصل الجنوب عن السودان الأم، ولم يهدأ لإسرائيل وأمريكا بال، فقد ذهبت إلى الجهة الأخرى حيث إقليم (دارفور )، وتحت عنوان حقوق الإنسان تبسط الدول الكبرى يدها على مواقع حساسة ورخوة من جسم أمتنا، سيما عندما تجد الذريعة والأسباب التي تقدمها الحكومات وبعض بني جلدتنا بتصرفات طائشة تحافظ على البيدر ولا تحافظ على الحقل. ويمكن حصر الأسباب المباشرة وغير المباشرة أو غير المعلنة للتدخل الأمريكي والصهيوني في تقسيم السودان في: 1/ إقامة دولة مسيحية في الجنوب (وقد تحقق مؤخراً)، لعدة أسباب وهي: * لمنع انتشار الإسلام في إفريقيا، في الوسط والجنوب والشرق .. !. * منع المسلمين في السودان من التواصل مع المسلمين في جنوب إفريقيا ووسطها، إما لمساعدتهم وحمايتهم من الاضطهاد الذي يعانوا منه في دولهم!. * جعل دولة الشمال المسلم في حالة قلق كبير واضطرابات وحروب، وذلك بإنشاء مركز كبير في دولة الجنوب ل "الإستخبارات العالمية"، حيث كانت الدولة الجديدة قبل اندلاع الحرب الأهلية بين قبائلها أقوى المرشحين لاستضافة قيادة القوات الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم). 2/ الاستيلاء على المخزون النفطي، حيث يصل الإنتاج الحالي إلى 500 برميل في اليوم !!، وثلثى إنتاج الحقول النفطية يأتي من جنوب السودان وجنوب دارفور!، ولا ننسى عنصر " اليورانيوم " الموجود بكثرة في إقليم دارفور مما يجعله محط أنظار جميع الدول العالمية!. 3/ السيطرة على منابع النيل، وهذا مبني على أهداف تتلخص في: * الضغط على مصر والسودان سياسياً، حيث يصبح مصير كلاً من مصر والسودان مرتبط بدولة جنوب السودان، وتصبح الأمور كلها تحت يد الدول الكبرى ورغباتها وتمنع من مصر والسودان استقلالها عملياً .. !. * تقديم المياة ك " هدية " لإسرائيل التي ما زالت تحلم بذلك، حتى يروي ظمأ المحتلين وييسر لهم سبل العيش بأرخص الأثمان. 4/ الاستفادة من خصوبة الأراضي السودانية التي تعتبر بمثابة سلة الغذاء للوطن العربي، التي ربما لو استغلت تلك الأراضي ووزعت على الوطن العربي لكفته!!، وكذلك ستسعى الدول الكبرى لجعل الأمر في شمال السودان على ماهو عليه من عدم استغلال للأراضي، واستغلال الأراضي الخصبة في جنوب السودان وتوزيعها على الدول المستعمرة .. وكذلك جعل دولة الشمال المسلم في صراع دائم، وكذلك يتم الضغط عليهم باستخدام سلاح المياه!. في بلاد بهذه الشساعة وتلك القدرات والخيرات وتلك التحديات والأطماع، نشأت الحركة الإسلامية السودانية التي تتمتع بميزة خاصة لا تكاد تتوفر لغيرها من الحركات في العالم العربي والإسلامي، ألا وهي مشاركتها في الحكم، بل هيمنتها على هذا الحكم ليس عبر صناديق الاقتراع وفق آليات العمل الديمقراطي، وإنما من خلال الانقلاب العسكري الذي قام به نظام الإنقاذ عام 1989، ومن ثم فنحن أمام تجربة فريدة خاصة أطاحت بنظام ديمقراطي منتخب، كانت تعتقد أنه يتآمر عليها من أجل استئصالها فتغذت به قبل أن يتعشى بها كما يقولون (وتقول بعض المصادر القريبة إن الإنقلاب جاء بعد مذكرة للجيش طالبت بإخراج الإسلاميين من الحكومة المنتخبة وتكوين حكومة من خارج البرلمان لم تعرض على النواب، مما أعتبرته الحركة الإسلامية إنقلابا مدبرا من الخارج عليها، وترافق ذلك مع تساقط مواقع للجيش السوداني في الجنوب في أيادى التمرد، بما يشبه إنسحاب الجيش العراقي من الموصل )، وجاءت بنظام إسلامي يحظى من وجهة نظرها بشرعية سياسية شعبية من الشعب السوداني المتدين بطبعه. التجربة السودانية ورغم حجم الظلم والحصار الذي سلّط عليها حتى من قبل كبرى الحركات الإسلامية التي افترقت قيادتها عنها في بدايات وصولها إلى الحكم في السودان تعتبر تجربة فريدة ومميزة وسابقة على مستوى الفكر والخطاب والممارسة، فالحركة الإسلامية في السودان استطاعت أن تشارك في الحياة السياسية في مراحل متقدمة عن سابقاتها في الحركة الإسلامية، وتعاطت مع شؤون السياسة والحكم بطريقة اجتهادية وتجديدية غير مسبوقة على مستوى الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، وفي مقدمتها حركة الإخوان المسلمين في مصر والجوار، ففي الوقت الذي كانت الحركة الإسلامية في مصر وتونس تعاني ويلات السجون والمحن في عهد بن علي ومبارك، كانت الحركة الإسلامية في السودان تخوض تجربة تحالفات سياسية في قمة هرم الحكم، وعلى مستوى المؤسسة العسكرية، وتتطلع إلى أدوار أكثر سبقاً في تسيير الشأن العام وتجتهد لتقديم حلول ومواقف حول قضايا فكرية وسياسية واقتصادية غاية في الأهمية على المستوى الإسلامي، فنحن نتحدث عن طرح عدة إشكاليات أبرزها مدى مشروعية فكرة الوصول إلى السلطة عبر القوة، ثم مدى توازن العلاقة بين الحركة والدولة، وهل هذه العلاقة صراعية أم تعاونية، كما واجه الإسلاميون منذ البداية، التحدي الكبير الذي شغل الفكر السياسي الإسلامي الحديث، ويشغل الآن فكر وحراك النخبة في الحركات الإسلامية، حيث حاولت النخبة الإسلامية السودانية الإجابة عليه نظرياً. يتعلق الأمر بما هو شكل الدولة الإسلامية الحديثة التي يريد الإسلاميون إقامتها؟، وبلغة أخرى: كيف تستطيع طليعة إسلامية ما أن تدير دولة حديثة؟، وقد قدم أحد منظري النظام (حسن الترابي) نموذجا مثاليا طارحا تساؤلات مثل ماهو شكل النظام السياسي الإسلامي الحديث؟، ماهي الصورة والفلسفة الإسلامية التي تنظم فيها القوة العسكرية؟، وكيف تكون العلاقات بينها وبين رأس المال الخاص ورأسمال الدولة؟. ويتفرع هذا السؤال بالطبع إلى تساؤلات فرعية لا حصر لها: ماهي الصورة الإسلامية التي ينبغي أن يتحول إليها العمل الدبلوماسي الحالي؟، هياكلا ومقاصدا وثقافة؟، ماهي الصورة التي تنتظم فيها القوة العسكرية تدريبا وعناصر وأهدافا مرجوة؟، وماهو وضعها في النظام السياسي عموما وفي هرم السلطة على وجه الخصوص؟، ماهي الصور والتنظيمات التي تتخذها القوة العاملة في دولة إسلامية؟، ماهو شكل النظام السياسي الإسلامي الحديث؟، ماهو نمط التعليم في نظام إسلامي حديث؟، كيف تدار حركة الاقتصاد في نظام إسلامي معاصر؟، كل هذه الأسئلة وكثير غيرها لا توجد لها إجابات مثالية جاهزة، فالفكر الإسلامي قد توقف عن الاجتهاد في هذه المجالات منذ زمن طويل، هذا إذا استثنينا بعض المجهودات النافعة التي حدثت في مجال الاقتصاد الإسلامي وبعض مشروعات القوانين هذا من جهة، أما من جهة أخرى فقد امتازت الحركة الإسلامية في السودان قبل وصولها إلى السلطة عن العديد من الحركات الأخرى بالكثير من الميزات في روافد فكرها، ووعيها العام، وبنيتها الهيكلية، وبنائها القيادي، وعملها في المجتمع، وعلاقتها بالسلطة، وعلاقتها بالحركات الإسلامية الأخرى.. فالحركة التي جاءت إلى السلطة بالانقلاب العسكري وهي تحمل في داخلها بذور الخلافات الداخلية، وكان أكثرها خطورة الخلاف الكبير الذي حدث بين مؤسس الفكرة «الإنقاذية» ورئيس الجمهورية الذي تجلى في قرار حل البرلمان فى «الرابع من رمضان» والذي كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر الحركة الإسلامية السودانية، مؤدية في نهاية المطاف لفراق العسكر عن المدنيين بقيادة حسن الترابي السياسي الأكثر إثارة للجدل في الخمسة عقود الماضية من القرن الماضي، (لم يكن الخلاف بين العسكر والمدنيين على طرف، بل كان هناك مدنيون في كل طرف، وكان التناقض الأساس هو حول العلاقة مع الخارج وبخاصة الجوار الحيوي ودول الخليج فى مناخ حرب متواصلة في الجنوب وحصار إقتصادى إقليمي ودولي). والطريف، كما يقول محمد مختار الشنقيطي، في مقاله الاستدراكي الناقد (فقه الحركة وفقه الدولة: عبرة التجربة الإسلامية في السودان) على كتابه الذي عرض فيه نموذجية الحركة الإسلامية في السودان وسوّق لتجربتها كمثال للحركات الإسلامية: (الحركة الإسلامية في السودان: مدخل إلى فكرها الإستراتيجي والتنظيمي)، أن الثورة الوحيدة التي شهدتها الدول العربية في تاريخها الحديث هي ثورة المشير عبد الرحمن سوار الذهب في السودان عام 1985. ومن أسباب كونها ثورة أن تحركات الشعب والقوى السياسية والنقابية السودانية ضد النميري سبقت أولا، ثم جاء تدخل المشير تتويجا لها، على أن سوار الذهب يستحق الثناء في زمن الطمع والأنانية السياسية الذي نعيشه: فقد كشف عن زهده في السلطة ووفائه بوعده، وسلم الأمر إلى الشعب عن طيب خاطر، فهو يذكرنا بعظماء الثوار في التاريخ البشري مثل جورج واشنطن الذي اقترح عليه أحد قادة جيشه أن يقبل البيعة أول ملك للدولة الأمريكية الوليدة، فردّ واشنطن "إن الشعب الأمريكي لم يبذل الدم للتحرر من جورج الثالث (ملك إنجلترا) ليضع مكانه جورج الأول (يعني نفسه). فنحن إذن أمام تجربة جديرة بالدراسة والاستلهام، وأخذ النموذج والدرس والعبرة والإفادة على مستويات متنوعة، سيما أنها طرحت عدة إشكاليات واجتهادات وتجديدات مبكرة في مقاربة الحركة الإسلامية للسياسة، ونسجل هنا أسف كبير يصل إلى درجة الحزن على طريقة التعاطي مع تجربة السودان في الحكم والسياسة والعمل العام، ومرّت في الزمن السياسي للحركة الإسلامية وكأنها تجربة نكرة، بل ومثال سيء يمكن أن يذكر في مسيرة الحركة الإسلامية السياسية، حيث يحاول بعض نخبة المفكرين الإسلاميين وضع تجربة السودان في رواق التجارب الفاشلة على كافة المستويات، وهو حكم جد قاسٍ على مسيرة ماتزال قائمة إلى اليوم منذ ثمان وعشرين سنة خلت في الحكم، وثلاثين أخرى نضالات وعمل متواصل، وهي اليوم تحاول استدراك الإخفاقات التي أصابتها وتتلمس الطريق والمسلك المؤدي إلى الانعتاق من مربعات الحصار المركب من قبل العرب والغرب والإسلاميين أيضا، ونعتبر هذه الدراسة جزء لا يتجزأ من محاولة فحص التجارب ونقدها ابستمولوجيا بغرض صياغة مقاربة متجددة تمثل بداية للموجة الثالثة لهذا الفصيل المهم والرئيسي في المجتمع العربي والإسلامي بعيدا كل البعد عن التوصيفات الهوياتية التي تساهم في مواصلة أخطاء الماضي وتبريرها بمسوغات تتيح لنفس التركيبة البشرية والفكرية الاستمرار دونما تصويب وتصحيح وتجديد في قرن التجديد.
التاريخ الممتد والمواقف الشاهدة المشهودة ونظرا لبعد الشقة وعراقة التجربة التي عاصرتها وفرحت بها الأجيال الأولى للصحوة الإسلامية ولم تتعرف عليها الأجيال الحالية، سنعرض بتكثيف كبير بدايات الحركة الإسلامية في السودان من خلال ما كتبه مؤسسوها الأوائل، ويتعلق الأمر بما كتبه إبراهيم أحمد محمد صادق الكاروري "الحركة الإسلامية السودانية، مدخل ومقومات حول مشكلات الفكر والسلطة"، أو الأمين الحاج محمد أحمد "الحركة الإسلامية في السودان 1944م – 1989م، الإيجابيات والسلبيات"، و المفكر د. حسن عبد الله الترابي "الحركة الإسلامية في السودان، التطور والكسب والمنهج"، و د. حسن مكي محمد أحمد "حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944- 1969)" وكتابه الموسوم ب"الحركة الإسلامية في السودان ، 1969 – 1985م، تاريخها وخطابها السياسي"، و د. علي عيسى عبد الرحمن "الحركة الإسلامية السودانية من التنظيم إلى الدولة (1949 – 2000)، وهي مراجع مهمة في قراءة وفحص تجربة الحركة الإسلامية في السودان، لأنها ببساطة كتابات صناع التجربة، وهي الميزة التي تتفرد بها السودان على المستوى القيادي، فقد كان في قيادة الحركة الإسلامية في السودان ألمع المفكرين في التيار الإسلامي، وعلى رأس كل هؤلاء المجتهد المجدد حسن الترابي، الذي كان له ورد سنوي في الكتابة، حيث كان يصدر عنه في كل سنة كتاب يؤرخ للمرحلة ويطرح الإشكاليات ويجيب عنها بطريقة انسيابية متجددة قلّ نظيرها في العالم الإسلامي، وهو ماسوف نتحدث عنه في مقامه إن شاء الله. يقول الدكتور علي عيسى عبد الرحمان، في كتابه "الحركة الإسلامية السودانية من التنظيم إلى الدولة (1949–2000)":إن الحركة الإسلامية السودانية نشأت في العام 1949م، حيث بدأت بداية متواضعة من عناصر طلابية استفزها الواقع بأطروحاته في ذلك الوقت، فرأت أن تتمرد عليه وتطرح البديل الإسلامي، وفي ثنايا هذا الظرف وفي وسط الطلاب نشأت الحركة من عناصر طلابية تائبة إلى الدين، من بعد ما غشيت بعضهم غاشية الشيوعية، واستفزت بعضهم أطروحاتها السافرة التي فرضها التعليم النظامي الذي يسوسه الإنجليز، فنبتت النواة الأولى للحركة في صميم البيئة الطلابية بجامعة الخرطوم وفروعها في المدارس الثانوية، ولم تتخرج تلك الثلة المسلمة من الطلاب إلا نحو 1955م. ويوضح هنا الشيخ الترابي، نشأة الحركة الإسلامية السودانية وذلك عام 1949م، حيث يتحدث عن دواعي النشأة، فأشار إلى استفزاز أطروحات الشيوعيين والتي تنافي العقيدة وتعكس وجها ملحدا لا يتماشي وعقيدة السودانيين، كما يبيّن سببا آخر دعا لإنشاء الحركة الإسلامية السودانية، وهو المتمثل في غلبة التصور والأنماط التي فرضت من قبل التعليم النظامي الذي يسوسه الإنجليز، ليصبح السبب الآخر هو غربة التعليم الذي خطط له الإنجليز لخدمة أهدافهم، فهذان السببان وراء نشأة الحركة الإسلامية السودانية، والتي تكوّنت بجامعة الخرطوم وفروعها من الثانويات، ولعل في هذا الإيضاح بيان لمفاهيم ظلت سائدة في أذهان كثير من السودانيين والعالم بأن الحركة الإسلامية السودانية إنما هي امتداد طبيعي ومولود شرعي لحركة الإخوان المسلمين بمصر، بينما الحقيقة وكما يروي المؤسسون لها، بأن الحركة الإسلامية السودانية سودانية النشأة والأصل ولا بأس بأن تأثرت بأدبيات الحركات الإسلامية في مصر أو باكستان، وكان هذا المشروع الطلابي الإسلامي موازيا نشأة لرافد شعبي محدود قام فرعا لحركة الإخوان المسلمين المصرية، عبأته زيارات من دعاتهم الذين وفدوا في سياق تحرك مصر عامة نحو السودان، ووجدوا قبولا خاصا في الدوائر التي كانت أميل للاتحاد مع مصر، ويضيف وكانت هاتان الحركتان المتوازيتان تتصلان ولا تتحدان، ولكن انقطاع المدد الإخواني من مصر بما اعترى الحركة من ابتلاء هناك وقوة الخريجين الصاعدة في قيادة المجتمع السياسي في السودان والصلابة النسبية لحركة الطلاب أمور تناصرت لتجعل للمنظومة التي نشأت في الجامعة وراثة للحركة الإسلامية في السودان. وذكر هنا حسن الترابي العوامل التي جعلت الحركة الإسلامية التي نشأت في السودان هي الوارثة للعمل الإسلامي بديلا عن الوافدة، وما يلبث أن يذكر الشيخ بأن الحركة الوارثة أيضا كانت في هذه المرحلة أقرب إلى أن تكون عالة في زادها الفكري والتنظيمي على الخارج، وكانت تتناول أغلب أدبها من كتب الإخوان المسلمين في مصر أو كتابات المودودي، وكذلك كانت أشكال التنظيم السائدة فيها هي تقريبا من التجارب التنظيمية في مصر . ويري د. حسن مكي، أن الحركة الإسلامية كانت استجابة لثلاثة تحديات تتمثل: 1.انحلال المجتمع الإسلامي وابتعاده بالتدرج عن القيم الإسلامية وفقدانه لأسباب الحيوية والنشاط، خاصة بعد أن فقدت الخلافة الإسلامية. 1. الاستعمار الأوروبي الذي أضاف تعقيدا جديدا للوضع المتردي، حيث عمل على استئصال الحضارة الإسلامية عمق الشعور بالنقص، مما أدى إلى فساد الحياة الفكرية والثقافية لغياب الحرية. 2. النشاط العلماني والذي تجسد في الإدارات السياسية الموجودة في البلاد، وكانت حركته شرسه جدا وعدائية خاصة اليسار العلماني. 3. تكون هذه الأسباب وغيرها تداخلت واستفزت الشعور الطلابي المسلم في ذلك الوقت، وأدى هذا الاستفزاز إلى تكوين الحركة الإسلامية السودانية التي هدفت إلى العودة بالأمة إلى نقاء المجتمع الإسلامي الأول، والانتقال بها من التمزق والشتات إلى الوحدة والانسجام ورد الخلق عن كل ما يمكن أن يفتنهم ويبعدهم عن تعاليم الإسلام وعبادة الله.
* تلاقي تيارين يصنع حركة ممتدة وبمناسبة مرور ستين سنة على تأسيس الحركة الإسلامية السودانية، كتب البروفيسور حسن المكي، واصفا الحركة الإسلامية السودانية بأنها نتاج لتلاقح تيارين – تيار حركة الإخوان المسلمين القادم من مصر، والذي وجد طريقه للسودان في منتصف الأربعينيات على أيادي معاوني البنا الذين أرسلهم للسودان، وكذلك على جهد جماعة حركة التحرير الإسلامي التي صدر بيانها التأسيسي في مارس 49 – من رائديها الأستاذين المرحوم بابكر كرار، والأستاذ محمد يوسف محمد. ومع أن حركة الإخوان المسلمين سبقت حركة التحرير الإسلامي في الميلاد والتأسيس، إلا أن مؤرخي الحركة الإسلامية السودانية يختارون ميلاد حركة التحرير الإسلامي أساساً للبناء الذي قامت عليه الحركة الإسلامية السودانية، نسبة لأنها مثلت حركة النخبة. ولأنّها ولدت في الجامعة والمدارس العليا، وظلت الجامعة والمدارس العليا هي حاضنة العمل الإسلامي ورحمه الخصيب ومعظم قادة الحركة الإسلامية التاريخيين تشكلوا في رحم الجامعة والمدارس العليا "بابكر كرار، يوسف حسن سعيد، محمد يوسف محمد، الرشيد الطاهر، وعبد الله محمد أحمد، د. الترابي، مرورا بدفع الله الحاج يوسف، وعثمان خالد مضوي والبقية"، ولأنها كذلك أعلنت عن ولادتها عبر بيان تأسيسي. وقد ساعدت مدرسة حركة الإخوان المسلمين الحركة الإسلامية ودعمتها بكوادر أساسية منها أسرة المرحوم عوض عمر وأشقائه، وعلى رأسهم الأستاذ يسن عمر، الإمام والأستاذ صادق عبد الله عبد الماجد، ومحمد الخير عبد القادر، والأستاذ علي عبد الله يعقوب والبقية. وقد برزت الحركة داخل المجتمع الطلابي باسم حركة التحرير الإسلامي، ولكن خصومها كانوا يطلقون عليها اسم " الإخوان المسلمون " نسبة لأن الاسم في مصر أصبح اسما يحمل ظلالا سلبية نتيجة للحملة الإعلامية الناصرية التي ألصقت بالإخوان تهم الرجعية والعمالة والإرهاب، واندفع اليساريون لتكبيل الحركة بهذا الاسم، لكي يلصقوا بها كل سلبيات الحملة الوافدة من مصر، خصوصا أن حركة التحرير الإسلامي استطاعت أن تبرز مساوئ التيار اليساري وسط المجتمع الطلابي وتهزم مؤتمر الطلاب السودانيين واجهة الحركة اليسارية وتتسيد اتحاد طلاب جامعة الخرطوم في بداية الخمسينيات. ويبدو أن كثيراً من مكونات حركة التحرير الإسلامي أخذ يتقبل اسم (الإخوان المسلمون)، لما قرأوا كتبهم ورسائلهم، كما أنهم خبروا حركة الإخوان على مستوى الشارع السوداني، كما عاد بعض خريجي الجامعات المصرية من الإخوان السودانيين ليعملوا تحت مسمى الإخوان، ولتجاوز هذا اللبس انعقد مؤتمر العيد في أوت عام 1955م لتحرير اسم الحركة وأهدافها وكتابة دستورها.