…لم يؤيد الراحل عرفات احتلال الكويت، ولكنه لم يشجبه علناً، بل ظل ينادي بحل عربي لهذه المشكلة، يؤدي إلى انسحاب القوات العراقية من الكويت، تجنباً لتدخل عسكري أمريكي، كان يراه ولا يراه صدام حسين. وقبل يومين من هجوم الأمريكيين وحلفائهم على الكويت، أي في 14 جانفي1991، اغتيل صلاح خلف (أبو اياد) وهايل عبد الحميد (أبو الهول) ومحمد العمري (مساعد أبو اياد) في عملية دبرها أبو نضال، فشكّل غياب أبي اياد خسارة كبيرة لعرفات، وللحركة الوطنية الفلسطينية وحركة فتح، رغم أنه لعب أكثر من مرة الدور المخالف لعرفات، والاتصال بالمعارضة على قاعدة الوحدة، لكي يتيح للقيادة إمكانية النظر إلى أبعد، فبعد غياب أبي جهاد بثلاثة أعوام، هاهو يفقد صديقه الثاني شخص يمكن الإعتماد عليه، فقال لأحد معاونيه: "لقد غدوت يتيماً حقيقياً بعد اغتيال أبي أياد، كان الشخص الأخير الذي يمكنني أن ألجأ إليه في الساعات العصيبة". مع ذلك، لم تكن أمريكا قد تخلّت في الواقع عن تسوية النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي، خاصة في ظل تصاعد الانتفاضة، فأعربت عن عزمها دعوة أطراف النزاع، إلى مؤتمر سلام دولي يتمثل -حسب خطة بوش- في الأرض مقابل السلام على أساس قرار 242، واحترام الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، والسلام والأمن لإسرائيل. في هذا الوقت الذي قررت فيه إسرائيل الموافقة على هذا المؤتمر، قرّر عرفات أن يدعم هذا التوجه بقرار من المجلس الوطني الفلسطيني، كإطار لأي تغير بالموقف السياسي، وكمناسبة للعودة إلى الساحة الدولية، فانعقد المجلس في دورته العشرين في الجزائر في سبتمبر1991، وعلى جدول أعماله، المشاركة الفلسطينية في مؤتمر السلام بالشروط الأمريكية، وأن يكون مطلق اليدين في حواره مع "جيمس بيكر" بشأن القضية الفلسطينية، ففاز بأغلبية ساحقة: 256 مؤيداً و69 معارضاً و12 ممتنعاً عن التصويت، وقد وافق المجلس رسمياً على تشكيل وفد فلسطيني أردني مشترك إلى المؤتمر، وهي الصيغة الوحيدة التي تقبلها إسرائيل، كما وافق المجلس على استقالة أبي العباس من اللجنة التنفيذية، الذي كان شرطاً أمريكياً لاستئناف الحوار مع "م. ت. ف". وبعد اجتماع المجلس مباشرة توجه عرفات إلى دمشق تلبية لدعوة الرئيس السوري لمناقشة موضوع المؤتمر الذي قررت سوريا أن تحضرة. وبالفعل، عقد مؤتمر للسلام في "مدريد" في 30 أكتوبر1991، برعاية جورج بوش وميخائيل غورباتشوف، وضم ممثلين عن سوريا ولبنان ووفداً أردنياً – فلسطينياً (مؤلف من 28 عضواً منهم 14 فلسطينياً)، كما دعت مصر والاتحاد الأوروبي كمراقبين، ورغم استبعاد فلسطين المشاركة بشكل مباشر، إلا أن عرفات اعتبره "إنجازاً حققته المنظمة، ساهمت الانتفاضة في تحقيقه". وقد طرح في مدريد، على الصعيد الفلسطيني، خطة للحكم الذاتي الفلسطيني في الأراضي المحتلة لمدة خمس سنوات، على أساس أن تبدأ مفاوضات لتحديد الوضع النهائي لهذه الأراضي بعد انقضاء السنوات الثلاث الأولى منها.
* حادث عابر لعرفات غادر عرفات إلى السودان لإجراء محادثات مع الرئيس "عمر البشير" وتفقده للقوات العسكرية الموجودة في السودان، وفي طريق عودته من السودان إلى تونس، تعرضت طائرته لعاصفة رملية، انعدمت خلالها الرؤية، فسأل الطيار عرفات عن رأيه، فأبلغه: "أنت قائد الطائرة، فتصرف كما تجده مناسباً وضرورياً"، فطلب منه أن يعود إلى نهاية الطائرة، فغيّر ملابسه، وارتدى بزته العسكرية، وراح يقرأ آيات من القرآن. وفجأة اختفت الطائرة عن شاشات الرادار الليبية، وتناقلت وكالات الأنباء عن "اختفاء عرفات وسط الصحراء الليبية". اصطدمت الطائرة أخيراً بكثب رملي، أثناء الهبوط الإضطراري فأنقذف عرفات وركاب الطائرة لمسافة خمسين متراً، وسط رمال متحركة، جميعهم أحياء وجرحى، باستثناء من كانوا في قمرة القيادة، الطيارين الفلسطينيين والميكانيكي الروماني، الذين استشهدوا في مكانهم، فبدأوا يبحثون عن أسلحتهم، وبمعجزة وسط سواد الليل الحالك عثروا على حقيبة عرفات المليئة بالأسرار، ونظموا حراسة لحماية الضحايا من الضباع والوحوش وقد فاحت رائحة الدم في الأجواء، وما لبثت فرق البحث الفلسطينية التي انطلقت من معسكر "سارة" أن وصلت إلى مكان الحادث، وكذلك اكتشفت فرق الاستطلاع الجوي المؤلفة من طائرات ليبية ومصرية وفرنسية مكان الحادث، وتقدّمت فرق البحث وأنقذ الناجون. وأرسل عرفات إلى الجميع، رسالة مختصرة: "أشكركم، أنا بخير، الحمد لله، أبو عمار". تدفقت مظاهرات التعاطف والتأييد والبرقيات في مدينتي طرابلس، وتونس. وفي طرابلس حدثت مفاجأة لم تكن مرتقبة، حيث حضرت السيدة "سهى الطويل" التي كانت تعمل في مكتبه، وعلى الفور تم معرفة أنها زوجته التي حافظ على سريّتها حتى ذلك الوقت، وكان قد تم الزواج يوم 17 جويلية 1990، في نطاق ضيق جداً، في بيت عرفاتبتونس، وكان أحد شهوده هو جورج حبش، وطلب منها عرفات أن يبقى الزواج سرياً في هذه المرحلة لحساسية وجود الانتفاضة، فما كان منها إلاّ أن وافقت على هذا الشرط.
* الطريق إلى أوسلو مهما تكن مفاجأة على صعيد زواجه، إلاّ أن عرفات غادر المستشفى بأسرع ما يمكن، فالمفاوضات بعد مدريد أصابها الركود من قبل واشنطن، بضغوط إسرائيلية، ما خلق معارضة فلسطينية بلغت حداً قرّر فيه أعضاء من المجلس الثوري لحركة "فتح" بوقف هذه العملية. ومرة أخرى، هدّد عرفات بالاستقالة، وفرض عليهم التراجع، حيث كان يخشى أن يتمكن الأمريكيون والإسرائيليون من الانفراد بالوفد الفلسطيني وعزله تدريجياً، مما يشكل تهديداً لمنظمة التحرير وقيادتها. ففي الواقع أنه، وبالتوازي مع مفاوضات السلام الرسمية، كانت تجري لقاءات غير رسمية اتخذت "م. ت. ف" مكانها الطبيعي فيها. وفي 13 سبتمبر1992، أقيم أمام البيت الأبيض إحتفالا أعد له إعداداً جيداً من الإدارة الأمريكية، وغطى إعلامياً على أوسع نطاق. وقعت "م. ت. ف" وإسرائيل إعلان المبادئ وملحقاته (اتفاقيات أوسلو) حول الحكم الذاتي للأراضي الفلسطينيةالمحتلة، بعد الاعتراف المتبادل بين الطرفين. وفي هذا التوقيع، رأت إسرائيل بداية لنزاع طويل وعسير مع الفلسطينيين، من شأنه أن يؤدي إلى سلام مع البلدان العربية، في حين اعتبرته "م. ت. ف" خطوة تمهيدية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة تمارس سيادتها على الضفة الغربية (بما فيها القدس الشرقية) وقطاع غزة. وفي 12 أكتوبر صادق المجلس المركزي الفلسطيني على نص الاتفاق ب63 صوتاً، ومعارضة 8، وامتناع 9 أصوات.
* العودة إلى وطن الآباء والأجداد عبّرت المعارضة في الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي عن رفضهما لهذا الاتفاق، فعلى الجانب الإسرائيلي توالت دعوات اليمين القومي والديني والحاخامات إلى التصدي لهذا الاتفاق، ووقع أثناء ذلك مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل التي أدت إلى سقوط 29 شهيداً و 125 جريحاً، لإفشال هذا الاتفاق، ورغم أن عرفات أعرب عن "أمله أن يتخلى الجميع عن فكرة الانتقام"، قامت حماس فنفذت سلسلة من العمليات ثم توقفت، فبدا عرفات ورابين مرتاحين "أن عملية السلام لم تنهزم". وبحسب نصوص إتفاقية "أوسلو" أقيم في قاعة المؤامرات الدولية بالقاهرة، في يوم 4 ماي 1994، حفل توقيع على اتفاقية إقامة سلطة للحكم الذاتي الفلسطيني، بحضور الرئيس المصري حسني مبارك. وبعد التوقيع بأسبوع، بدأت القوات الإسرائيلية في الانسحاب من قطاع غزة وأريحا، في ظل تصاعد الغليان في الأوساط اليمينية الإسرائيلية، أما الفلسطينيون في الضفة الغربيةوغزة، فقط انتعشت آمالهم في التغيير عند غالبيتهم. بدأ أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية، العودة إلى الوطن (غزة وأريحا أولاً) عن طريق الأردن ورفح على مرأى من القوات الإسرائيلية. وفي الأول من جويلية 1994، كان الشارع الفلسطيني في غزة بانتظار زيارة ياسر عرفات الاستهلالية الأولى. كان الرئيس حسني مبارك قد رافق عرفات إلى معبر رفح، حيث ودّعه في الشطر المصري منه، واجتاز عرفات الحدود إلى وطنه، قبّل الأرض وأدّى الصلاة، وعاد إلى بلده بعد غياب خمس وعشرين سنة، جاءها ليس متخفياً، بل في إطار اتفاقية سلام، معززة باعتراف دولي. كانت الجماهير الفلسطينية تنتظره على أحر من الجمر، من رفح حتى ميدان الجندي المجهول وسط غزة، لعلعت زغاريد النساء، وبكى الرجال وهم ينظرون إلى ذلك الرجل الذي قادهم إلى الحرية والكرامة. وصل إلى الميدان فتدافع الشبان وحملوه مع سيارته على أكفهم، وموجات من الجماهير تلوّح بالأعلام الفلسطينية، وتحاول أن تتقدم بالرغم من سياج الشرطة المحكم. وقف عرفات على منصة الخطابة، وعلى الرغم من الزلزال الذي أحدثته حماسة الجماهير في تحية قائدهم، كان عرفات حذراً في كلمته، مؤكداً على: "قضية المعتقلين ومعاناتهم، وبالأخص زعيم حركة حماس الشيخ أحمد ياسين، وأشاد بالشهداء، وأطفال الحجارة، وأسرهم، مشدداً على ضرورة احترام المقدسات"، وإذ ذاك كان هدير هتاف الجماهير، يسمع من مسافات بعيدة، وهم يهتفون: "بالروح بالدم، نفديك يا فلسطين". زار عدة مواقع في قطاع غزة، وما إن حل اليوم الثاني، حتى اندلعت موجة من التظاهرات في إسرائيل، تنديداً بهذه الزيارة، وبالأخص في القدس، ما اضطر عرفات للانتقال من غزة إلى أريحا على متن مروحية، فخرج المواطنون الفلسطينيون لاستقباله بحماسة لا تقل عن حماسة أهل غزة، وهم يهتفون، وعرفات يهتف معهم: "بالروح بالدم، نفديك يا فلسطين"…..