بقلم: الدكتور وليد بوعديلة تعدّ الكتابة أمانة كبيرة بالمفهوم التاريخي والأخلاقي والمعرفي، كما أنها تختصر وتصور مشاعر الكاتب وأفكاره، وتنقل تفاعلاته مع أمته وتجاربها المختلفة في الماضي والحاضر وأشواقها للمستقبل، ولا تغيب الذاتية هنا، ومن ثمة وجب التفريق بين الكاتب للمذكرات والمؤرخ. فالمؤرخ هو الباحث الموضوعي في الحدث التاريخي المتجرد من الميل والعاطفة، والمهتم بالسرد المنهجي وتناول الأحداث وعلاقتها بالجنس البشري، والمعتمد على الخطوات والآليات البحثية العلمية، والمزود بقوة الحقيقة وسلطة الضمير العلمي فقط، وشعاره الحياد والبعد عن النزعات السياسة والفكرية والعقائدية، معتمدا الكثير من الوسائل البحثية ومنها الوثائق، وقد تكون المذكرات التي يكتبها السياسي أو غيره من وثائقه المهمة التي تكشف الحقائق وربما الأسرار. أما كاتب المذكرات فهو الناقل لمحطات حياته ومسارات انتقاله بين الأمكنة والأزمنة، وقد تتقاطع المسارات الشخصية مع المسارات العامة، فهو يصف الأحداث ويعلق عليها عايشها أو شاهدها، فنقرأ عنده أخبارا ومعلومات عن مجتمعه أو منطقته الجغرافية والثقافية، وهنا يحضر الميل الشخصي والعاطفة الوجدانية وكتابة المذكرات نوع من أنواع الكتابة التاريخية، وهو مرتبط بالسيرة الذاتية بمعنى نجد موضوعية التاريخ وذاتية السيرة. * الدولة والذاكرة: وعندما تكتب أي دولة لذاكرتها التاريخية، فهي تلجأ إلى المختصين ليقوموا بعملية الجمع والتدوين والتمحيص، كما هو الشأن مع التراث، فالدولة هي التي تشرف دائما على هذا التراث الدارج منه والمثقف، تستلهمه وتستمد منه التميز والتفرد الحضاري وتعيد إنتاجه عبر هياكلها ومؤسساتها العلمية والثقافية والإعلامية. والمؤرخ قد يعتمد المذكرات في حال غابت الوثائق الأرشيفية الأصيلة أو لم يتصل بها مع الحرص على مقارنتها بغيرها للتأكد من الحدث التاريخي. وفي السياقات السياسية يتحول التراث إلى أداة تنافس وتجاذب بن التيارات السياسية فتتعدد قراءته الأيديولوجية ويتخذ مدارات فكرية مختلفة، فهو الورقة السياسية المربحة، والتي تشكل الموقف وتحدد القناعة، ويكفي أن نعود للمشهد السياسي الجزائري وقراءته لوثيقة بيان أول نوفمبر لنعرف الدلالات والتأويلات التي قدمت للبيان بين الأطياف السياسية المختلفة. ويتساءل المفكر محمد عابد الجابري، ضمن هذا الإطار: إلى أي مدى يمكن الاستفادة من التراث في العمل السياسي لبناء المستقبل؟، ويتوقف عند رواد النهضة ذوي النزعة الإسلامية فالأفغاني _مثلا- طرحت عليه إشكالية الشرق المستعمر أوالمهدد من الاستعمار، فما العمل لمواجهته؟. ويقول الجابري بأن الأفغاني وظف ما عند المسلمين أي الدين والتراث لتحميس الناس واستنهاض الشعب، فهو يعتبر الدين جزءا من التراث (وهذه قضية أخرى)، لذلك يبحث في التاريخ الإسلامي للدول التي تأسست مستفيدة من التراث- الدين فيدرس تجارب السعودية، باكستان وإيران، بل ويتجه إلى عمق التاريخ الإسلامي ليدرس عهد الصحابة والعهد الأموي والعباسي، مؤكدا رؤيته: في كل مرة تبدأ الدولة على أساس ديني ثم تتحول إلى دولة دنيوية. ويتساءل الجابري كذلك: هل يمكن أن نؤسس الدولة الآن نظرياً واستراتيجياً على أساس التراث مع التفتح الكامل؟، ويجيب: الذي اعتقده أنه إذا لم نحل مشاكل ماضينا، فإننا لا نستطيع حل مشاكل مستقبلناة العودة بالقهقرى إلى الكتب والخزائن والأعلام غير ممكنة، لأنه لدينا خصوم هم الغرب. وعندما نبحث في التاريخ الجزائري، ونتأمل النقاشات التي فتحت بين المؤرخ والسياسي يمتد بنا المقام لفتح تفاعلات الثقافي مع السياسي، وهنا تتنوع المواقف والقناعات، ويقترح المؤرخ الجزائري، أبو القاسم سعد الله، مقاربة محترمة في هذا المضمار التاريخي والعلمي، فحسبه هناك اعتقاد سائد عندنا وهو أن المؤرخ كالسياسي، إما أن يكون في السلطة أو المعارضة، وهذا في نظري اعتقاد خاطئ، فالمؤرخ قد يكون متفقا مع السلطة في بعض مواقفها، وقد يكون منتقدا تصرفاتها. * نحن وفرنسا ولا يخفى علينا -عبر التاريخ- محطات العلاقة بين الثقافي والسياسي، وقد قدم التاريخ العربي الإسلامي الأسماء الثقافية التي اتخذت الموقف المغاير للخطاب السياسي الرسمي أو السلطوي، فالسلطان يفتح الخزائن كما يفتح السجون، وهو يريد الاستفادة من المثقف (العالم الشاعر الفقيهة) للبقاء في عرشه، والكثير من سوء التفاهم قد يحصل بينهما، وربما سوء الاستغلال أيضا فتحل الثوابت بدل المتغيرات وتستبدل الوسائل بالغايات، فيعم النفاق بدل الوفاق، ويحل الرياء بدل البناء، وتصبح الثقافة خماسة في إقطاعية السياسة. والكتابة السياسية للتاريخ تتحرك بين الهوى والعقل أو الموضوعية والذاتية، وهي قد تتضمن الحقيقة والصدق، لكن قلب الباحث التاريخي لا يطمئن كثيرا لها، فالمؤرخون يقتربون من أدب المذكرات ثم يبتعدون بحتا عن مصادر أخرى أكثر قيمة تاريخية، مثل الوثائق والتسجيلات الصوتية والبصرية للحدث. ولا غرابة أن يتخذ الكاتب السياسي الفرنسي مثلاً المواقف التي تخالف الحقائق التاريخية للوجود الاستعماري الفرنسي في الجزائر، وممارساته ضد الأهالي ومحاولاته طمس الذاكرة والدين، وكل ما هو جزائري، التربة والقيم، وهنا نفتح سؤال المطالبة الجزائرية الشعبية أو الرسمية لاعتراف فرنسا بجرائمها الاستعمارية. وقد تحدث محمد الميلي في الثمانينات من القرن الماضي عن فكرة الصورة المشرقة للاستعمار عند الفرنسيين، وقال: نحن نشاهد إلى الآن اليوم كيف يتابع مستعمرو الأمس مجهودهم لتبرير الاستعمار وتقديمه في صورة مشرقة، ونحن لا نلومهم في ذلك لأنه وجه من وجوه استمرار الحرب بشكل جديد وصورة أخرى. ونعتقد بأن الجزائر بدل أن تجري خلف الاعتراف الفرنسي التاريخي، عليها أن تجري خلف الوفاء الجزائري الجزائري بأن تجسد مطالب الشهداء وأحلامهم ببناء دولة قوية ومجتمعا متحضرا متمدنا، وطنا ينافس باقي أوطان العالم، وعلى الجزائريين أن لا يؤجلوا مشروعهم الاجتماعي بتحديد دستوري وواقعي للقيم والثوابت وعناصر الهوية، فالثورة الجزائرية -على حد تعبير محمد الميلي- _ثورة وطنية من إجل إعادة الاعتبار للقيم الوطنية المرتبطة أساسا بالحضارة العربية الإسلامية، ومن هنا كانت الجزائر بعد أن استرجعت استقلالها السياسي مطالبة بحكم الأسس التي قادت ثورتها أن تسعى لإقامة نموذج مجتمعي ومسك اجتماعي يرفض التقليد الأعمى للنموذج الغربي، فأن نأخذ من الغرب قيم التقدم المدني والتطوير التكنولوجي ومبادئ التسيير الإداري والاقتصادي فهذا جيد، أما أن نحول الأنا (الجزائري الأمازيغي العربي المسلم) إلى آخر مشهوه في فكره وقيمه فهو الخطأ والضعف. وقد سئل المؤرخ أبو القاسم سعد الله، عن سبب إهدائه كتاب "تاريخ الجزائر الثقافي" لجيل ما بعد الثورة، فأجاب بأن بعض الذين صنعوا المجد الثوري النوفمبري خانوا الأمانة، وتخلى بعضهم صراحة عن المبادئ التي كان يكافح من أجلها، وقد غلبت على هؤلاء الأنانية والجهل بحقائق الأشياء وسلموا الراية لمن لا يستحقها ولا يعرف قدرها، وتسامحوا مع من خانوا الثورة. ويضيف كذلك في سياق آخر مقدما صورة للجزائري الذي يسير بشخصيتين متناقضتين _ندعي الوطنية ولا نتمسك بمبادئها، وندعي الثورية ولا نأخذ بلوازمها، نعتز بالجزائر ولكننا نسعى للخروج منها، ونشبعها كل حين سبا ولعنا. * الخاتمة: ونقدم في الأخير مثالا عن الاختلاف بين السياسي والمؤرخ في تقديم التاريخ، فالسياسي يقدم العلاقات الجزائريةالأمريكية بخطاب دبلوماسي، ولا يجد من التاريخ إلا العلاقات الجيدة والمصير المشترك والتفاهم والحوار، وهذا لأسباب سياسية واقتصادية ولموازنات دولية، أما المؤرخ فيقدم الحقيقة لا غير، وعندما نقرأ كتاب مولود قاسم نايت بلقاسم، نجد الكثير من الحقائق حول هذه العلاقة منذ العهد العثماني وسيطرة الجزائر على حوض المتوسط وتقديم فرنسا للضرائب لمرور سفنها، وكانت أمريكا قد دخلت في تحالفات مع الدول الأوربية للحرب ضد الجزائر، وكانت هناك حرب دامت عشر سنوات (ق16)، ثم إن أمريكا لم تعترف بالحكومة المؤقتة سنة 1958.