أمَّا بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله ربَّكم حق التقوى، واجعلوا تقواه نُصب أعينكم في السِّر والعلن، وحال إقامتكم وفي أسفاركم، فقد قال سبحانه آمرًا لكم (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)، واعلموا أنَّ تقواه عزَّ وجلَّ إنَّما تكون بالمسارعة إلى مغفرته ورضوانه، بفعلِ الحسنات، وترْكِ الخطيئات، قبْلَ نهاية العُمُر،(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا). عباد الله:نرفع أيادي الشكر و الحمد لله تعالى على إتمام شهر رمضان الفضيل.. فالحمد لله على نعمة بلوغ تمام الشهر، قالتعالى(وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ولعلكم تشكرون)، فَها نحن أكملنا العدة،(أَيَّامًا معدودات)، وبقي علينا عبادة الشكر.ما أسرع تلك الأيام، لقد انقضت ورحلت، فهل شعرتم كيف ذهبت؟ أيها المؤمنون، هنيئاً لكم، فقد صمتم شهركم، وقمتم لياليه، وهنيئاً لكم فقد بَلَغتم آخره، في حين أن أقواما ماتوا_ و لعلهم من الأقارب والأصدقاء_ ولم يتمكنوا من بلوغ آخره، وهذه نعمة عظيمة أنعم الله بها علينا. أيها المسلمون، هنيئاً لكم هذه الفرحة التي يأتي فيها عيدنا في ختام أداء ركن من أركان الإسلام صيام شهر رمضان، ونحن نكبر الله ونشكره،و قد زادت حسناتنا، وكُفِّرت خطيئاتنا، ورُفِعت درجاتنا، بإذن الله. عباد الله، أعيادنا دين وعبادة، صلاة وتكبير، زكاةُ نفس وزكاة فِطر، فرحةٌ وصلة رحم، تزاور ومحبة، عفوٌ عما مضى وإصلاح ذات البين، ونسيان للضغائن، فينبغي على من كانت بينه وبين قريب له أو صديق شحناء أو قطيعة أن يتخذ من هذا اليوم فرصة للصلة وبعث السرور في النفوس، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم). أيها المسلمون، تجملوا، وتزينوا، وتطيبوا، فإنها سنة نبيكم صلى الله عليه و سلم. أيها المؤمنون، افتحوا قلوبكمو طهروها، و ادعوا لبعضكم بقبول العمل في رمضان، وهنئوا بعضكم بعضا، فقد كان الصحابة يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنك. عباد الله، اعلموا رحمكم الله أن الفرحة العظيمة يوم نلقى الله بالأعمال الصالحة والمقبولة، حيث يقول الله: يا أهل الجنة، يقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك. قالوا: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا. اللهم إنا نسألك رضاك و الجنة و نعوذ بالله من سخطك و جهنم . أيها المؤمنون، إن رمضان فرصةلتصحيح المسار، وتقوية العلاقة مع الله تعالى على وجه الاستمرار، فلنستمر في العبادة، فالعبادة لا تنتهي بنهاية رمضان، بل تنتهي بالموت، (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قَل). أيها المسلمون، إن الاستمرار على العمل الصالح بعد رمضان من علامات التوفيق وقَبول العمل، وأما حصر العمل بالمواسم فيدل علىعدم التوفيق، فربُّ رمضان هو رب الشهور كلها، وقد سُئِل أحد السلف عمن يجتهد في العبادة في رمضان ويتركها في غيره فقال: بئس القوم، لا يعرفون الله إلا في رمضان(الرماضيون). عباد الله، إن صيام ست أيام من شوال بعد صيام رمضان سنّة مستحبّة، وقد رتب الله على ذلك أجرا عظيما، كما في حديث أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر. عباد الله، إن مما يزيد في فرحة العيد إصلاح العلاقات الاجتماعية، وتجديدها، وتقويتها، وغسل النفوس مما علق بها خلال العام من الكراهية والضغائن، فهنيئا لمن استغل العيد وأصلح بين زوجين متفرقين، وجمع بين قلبين متباعدين، وكان سببا في إعادة السعادة لأبناء تلك الأسرة، أو إسقاط دين، أو قطيعة بين أقارب أو إخوة في الدين. وبعد، فهذه بعضالوقفات ينبغي للمسلم أن يستحضرها في عيد الفطر. اللهم بارك لنا فيما آتيتنا من نعمة إدراك تمام الشهر، وبلوغ العيد، واجعلها من المقبزلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.ش إخوة الإيمان: فلسطين والأقصَى في قلب كل مسلم إن في قلبِ كلِّ مُسلمٍ مِن قضيَّة فلسطينو مآسيهاجُرُوحًا دامِية، وله عهدٌ لفلسطين مِن يوم اختارَها البارِي للعُرُوج إلى السماءِ ذاتِ البُرُوج. يا فلسطين .. إن حب المُسلم لكِ أن فيكِ أُولَى القِبلَتَين، والمسجِد الأقصَى الذي بارَكَ الله حولَه، وأنكِ كُنتِ نهايةَ المرحَلَة الأرضِيَّة، وبِداية المرحَلَةِ السماوية، مِن تلك الرحلةِ الواصِلةِ بين السماء والأرض. عباد الله:المسجِدُ الأقصَى، وفلسطينُ، وبيتُ المقدِس أرضُ النبوَّات، ومسرَى الرسُول، وإرثُ الأمة الخاتِمة الذي يسكُنُ قلبَ كلِّ مُسلم. بِقاعٌ بارَكَها الله وبارَكَ ما حولَها، أكثرُ أرضٍ في هذه الدنيا مشى فيها الأنبِياء..، لا يكادُ مكان منها لم يشهَد مُرورَ نبيٍّ، أو تسبيح رسُول. لذا كانت فلسطين هي ميراثُ النبُوَّات، وعهدُ الرِّسالات، أَولَى بها وبخِلافتِها رُسُلُ الله، وأتباعُهُم إلى يوم الدين. وقد كان مِن أوائِلِهم إبراهيمُ الخليل أبو الأنبِياء – عليه وعليهم السلام -، والذي لم يكُن يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ﴿وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ واستمرَّ الحال كذلك نبي بعد نبي، وتعاقَبَت على فلسطين أُممٌ، حتى أسلَمَ الله مقالِيدَها لهذه الأمة الوارِثَة لوحدانيَّة الرسالات، وخُلاصة النبُوءات، ولرسولِها المُبشَّر به في كل الأُمم السالِفة. صلَّى رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم –و صحابته إلى بيتِ المقدِسِ بمكَّة 13 عامًا، وبعد الهِجرة إلى المدينة أيضًا 17شهرًا، حتى نزلَ القرآنُ آمرًا بالتوجُّه إلى المسجِدِ الحرامِ والذي ارتبَطَ ارتِباطًا أزليًّا بالمسجِدِ الأقصَى، فكان الإسراءُ إليه، والمِعراجُ مِنه، ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ لهذا يتربع المسجد الأقصى في قلب كل مسلم،بل قال: النبيَّ – صلى الله عليه وسلم «لا تُشدُّ الرِّحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجِد: المسجِدِ الحرام، والمسجِدِ الأقصَى، ومسجِدِي هذا ..»أخرجه البخاري ومسلم. فهو البيتُ الذي عظَّمَتْه المِلَل، وأكرَمَتْه الرُّسُل، وتُلِيَت فيه الكُتُبُ الأربعةُ المُنزَّلةُ مِن الله: الزَّبُورُ، والتوراةُ، والإنجيلُ، والقرآنُ. أيها المسلمون: تابعتم جميعا عبر مختلف وسائل الإعلام و التواصل الأحداث بل الجرائمالحاصلة بالأرض المباركة بفلسطين،وخاصة بمدينة القدس الشريف،وباحات المسجد الأقصى المبارك،حيث يشهد العالم الانتهاكات الوحشية والاعتداءات الظالمة _ على حرمات الله، خاصة حرمة الشهر الفضيل"رمضان"و في ليلة القدر السابع و العشرينليلة القدر ، _ وعلى حرمة المسجد الأقصى من طرف الجيش الاستعمار الصهيوني. وهي أعمال وانتهاكات تصنف جرائم ضدالإنسانية وقيمها النبيلة في حق إخواننا ،وضد تعاليم الرسالات السماوية جميعا وأتباعها الصادقين في كل العالم،والتي أبرزها الاعتداء بالسلاح على التظاهرات السلمية بحي الشيخ جراح بالقدس وتهجير أهله،وهو إرهاب صهيوني غاشم في ظل صمت عالمي مخزٍ.. ما حدث نعتبره جريمة بشعة و "إرهاب دولة".لا نقبله كمسلمين، ولا يقبلها منطق الأديان ومنطق القوانين في كل العالم ومنظماته الدولية. _ندعو الدول العربية و الإسلامية للخروج من منصة المتفرج و المندد..و التحرك لإيقاف هذا الظلم والعدوان،و انتقاذ أرواح الناس في هذه البقة الطاهرة. _كما ندعو المنظمات وكل الأحرار في العالم للضغط لإيقاف هذا الظلم والعدوان _ونناشد علماء الإسلام ورجالات الأديان لبيان خطورة الاعتداء على الشعائر الإسلامية والمقدسات الدينية وانتهاك حرمات شهر رمضان،وتشويه أجواء عيد المسلمين(عيد الفطر). إن مثل هذه الجرائم التي تتكرر وتَتَعمَّق دورياتبعث على القلق والخوف من الرجوع إلى المربع الأول _فتنسفالجهود العظيمة لترقية القيم الإنسانية النبيلة المشتركة من تعايش وتسامحوسلم، _ وتخلخل أسس معالجة التطرف والإرهاب في العالم. أيها المسلمون:و بالمناسبة ظاهرة تحتاج إلى تنبيه، بعض الخطباء المتحمسين، والدعاة الغيورين و هو يتناول وضع الأمة المؤلمينفرالناس بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عن إظهار الفرح بالعيد، ويقولون: وكيف نحتفل بالعيد ودماء المسلمين تراق في عدة أماكن و وو؟" إخوة الإيمان: إن الاهتمام بأمر المسلمين و أصلهقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". _لا يحرمنا الفرح في العيد،فهي الأخرى عبادة خالصة.. _ولا يمنعنا هذا الشعور الطيب بإخواننا، وتلاحمنا معهم أن نفرح في العيدين؛ لأن الفرح شرعه الإسلام ودعا إليه، قال سبحانه وتعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)، فكل شعب يحب أن تكون لهم مناسبات يحتفل فيها ويتجمّع ويظهر فيها الفرح والسرور، ويتخلق الجميع فيها بخلق العفو والصفح والتسامح، وتكون الأعياد فرصة عظيمة لإدخال السرور على الأهل والأولاد، ولزيارة الأقارب وصلة الأرحام، والبر بالوالدين، والإحسان للجيران، وإدخال السرور على الآخرين ونشر السعادة للجميع. عباد الله… و نحن في هذا الوضع الخاص و الاستثنائي،اعلموا أن الله يبتلينا بالْمِحَنِ والمصائبِ والأوبئةِ ليُكَفِّر خطايانا، ، قال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾، تأمَّلُوا هذا الْجُنديَّ من جُندِ الله، ما يُسمَّى بكورونا، هذا المرض الْمُعدي، وما احدثه من هلع و خوف و ضحايا..، ليعرف العبادُ أنَّ الله ذُو عِزَّةٍ وعَظَمةٍ واقتدارٍ، وأن الخَلق في غاية العجز وشدَّة الحاجة والافتقار إليه سبحانه، ومع ذلك، فقد أرشدنا وهو الرحمن الرحيم إلى ما يرفع به هذا الوباء.،بالتوجه إليه : * بتقوى الله تعالى، وهي من أسباب الفرج بعد الشدّة:«وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًاوَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا» * والدعاء والتضرع إلى الله عزوجل وقت الرخاء ينفع في وقت الشدة «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، * كثرةُ الاستغفار؛قال تعالى:«وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» (الأنفال/33). فكان الاستغفار أماناً من وقوع العذاب حتى بعد انعقاد أسبابه. * وحُسْن الظّن بالله..فالعبديتقلّب في معيّة الله ولطفه كلّ حين حتى وقت اشتداد البلاء(قَالَ كَلَّاإِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، اللهم اجعلنا من عتقائك من النار، اللهم اجعل الجنة مثوانا، وأورثنا الفردوس الأعلى، وأدخلنا الجنة بلا حساب ولا عذاب، يا كريم يا وهاب، اللهم اعتقنا من النار، وأخرجنا من ذنوبنا كيوم ولدتنا أمهاتنا، اللهم لا تفرق هذا الجمع إلا بذنب مغفور، وعمل مبرور، وسعي متقبل مشكور، اللهم اجعل بلدنا هذا سويسرا آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم اجعل عيدنا سعيدا، وعيشنا رغيدا، واخلف علينا مواسم الطاعات والبركات ونحن والمسلمون في صحة وعافية وأمن، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، سُبْحَانَ ربنا رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين. -خطبة عيد الفطر بالمسجد الكبير في جنيف -مهاجري زيان– مسؤول الشؤون الثقافية و التعليمية بالمؤسسة الثقافية الإسلامية في جنيف