''..أحشفا وسوء كيل ..'' هذا المثل يضرب لمن يبيع سلعة فاسدة، أو هي أقل جودة، ثم يتحايل في الكيل فينقص ولا يزيد، والحشف هو رديء التمر الذي عادة ما يكون علفا للدواب، وينطبق هذا المثل على بعض الفضائيات العربيّة التي تروّج للرداءة وتخدمها من خلال السعي إلى هدم منظومة القيم، وهذا بتناولها مادة ثقافية ودينية أو إعلامية فاسدة لا تصلح للعادة ولا للعبادة، فهي تقوم بتخدير الشباب وقتل الوعي فيهم، بحصص سخيفة وبرامج منحطة تعيد المشاهد العربيّ إلى العصور الحجرية الموغلة في الجهل والتخلف والبداوة، وكأن القائمين على هذه الفضائيات لا يعلمون أنهم في عصر التكنولوجيات والفضائيات والاتصالات السّريعة الرّهيبة، فبدلا من أن تكون هذه الفضائيات قلاع علم وثقافة وتفتح ووسيلة للتوعيّة والتنوير، تحوّلت إلى تجهيل وتعتيم أفق الإنسان العربي، وإنها لتزهد في نشر العلم والفكر الحصيف ولا تدعو إلى فهم أسرار الكون ولا تحث على التميز والتألق. إنها تتوارى خلف بؤس وفقر الناس وجهلهم، وتدعي خدمة المواطن العربي، فهل ثقافة الخرافة والدروشة والشعوذة أمور تفيد الشباب وتخدم مستقبل الأجيال؟ هل ما يقدم في هذه الفضائيات يخدم الإنسان العربي في مستقبله وحاضره ويجعله يثبت أمام أعتى زوابع العلمانية أو العولمة؟ لماذا تبالغ هذه الفضائيات وتركز على هذا اللون من الثقافة دون غيره؟ أليس هذا سلاح موجّه إلى محاولات النهوض في إطار الحرب على المسلمين والإساءة إليهم والى رموزهم؟ لا أعتقد أن منشطي الفضائيات موضوع حديثنا يجهلون المعاني الساميّة المطلبية للآية الكريمة ''..وأعدوا لهم ما استطعتم ..'' هل الإعداد هو الشتم والعنتريات التي لا تقتل ذبابة ولا تنتج دبابة، قادرة على التصدي لهمجية الغرب وغروره وغطرسة بني صهيون؟ لا ينبغي أن نخدع أنفسنا وشبابنا بأحلام اليقظة، ونرمي بهم في أتون الحروب بأيد فارغة ودون اتخاذ الأسباب. لا يمكن لأمّة أن تتبجح وهي عاجزة عن إنتاج رغيف خبز أو صنع ألعاب للأطفال أو مخيط أن تشفي مرضانا بالدّجل وببول الجمال وماء الجراد ومستحضرات من التوابل. لماذا تبالغ هذه الفضائيات في تقديم حصص تصوّر عذاب القبر وتبالغ في التخويف وصرف الناس عن الحياة الكريمة التي رسمها القرآن الكريم، قد يصدق فيهم المثل '' من قصرت حجته طال لسانه وكثر عبثه''. نحن علمنا ونعلم أن الدنيا ليست دار قرار، وإن أمور الوعظ السليم موكلة للمسجد الذي يعالج المادة بذكاء وبموضوعيّة، ويجعل الشباب يكتشفون الحقائق بأنفسهم عن طريق القراءة والاحتكاك وحلقات الدروس. إن ضرب أمثلة موغلة في الخيال موجهة للأطفال والمراهقين تعطل لديهم حب طلب العلم، وتثني من عزائمهم بل تقتل فيهم الإرادة والإبداع والاهتمام بالحياة وتصرفهم عن نصيبهم من الحياة، عمرانا وتعلما وإنتاجا وتكنولوجيات وعلوما، ''ما كل ما قيل كما قيل * فقد باشر الناس الأباطيل'' فلماذا لا الفضائيات لا تقدم المادة العلميّة في ثوب قشيب وتهيئ الأجيال للانتصار على الحياة، بدلا من الزهد في معرفة الحياة. إن سلفنا الصالح كان يعالج الأمور بهدوء وبعيدا عن الصّخب الإعلامي المثير للمشاعر والغرائز لكن. ''أولئك آبائي فجئني بمثلهم * إذا جمعتنا يا جرير المجامع'' وإن الشعوب العربية لا ينقصها المال والرجال، وإنما ينقصها تنظيم الفكر ''..لو تعلقت همة المرء بما وراء العرش لناله ..'' إن بعض الفضائيات صارت طليقة اليدين، وكأنها وجدت لتخريب عقول الشباب، وصرفهم عن اللغة والكتاب، صارت حجابا يمنع الرؤية الصحيحة للحياة وإنهاء صحوة المسلمين التي بدأها المصلحون والمفكرون أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومالك بن نبي والدعاة والعلماء الأجلاء، أولئك الذين أناروا درب المسلمين. إن الدروس والبرامج المعدة من طرف هذه الفضائيات تعمل على جعل الشباب يفقد توازنه ورغبته في التعلم والعزوف عن قراءة الكتب التي تحمل معرفة وفكرا إنسانيا ضالعا في التطور، إنها تهدم ما تبنيه المدرسة وما تزرعه الأسرة من قيّم ومبادئ في نفوس أبنائنا، وللأسف ''فلو كان سهما واحدا لاتقيته * ولكنه سهم وثان وثالث'' ففي الوقت الذي تتنافس فيه الأمم على احتلال المواقع، بالعمل على تطوير منظوماتها التربويّة والفكريّة والصناعيّة في هذا الوقت نجد قنوات بدائية محسوبة على العرب والمسلمين تعلم الناس السحر والشعوذة والتداوي بأمور سخيفة، وتخالف الشريعة الإسلامية السّمحة بما تبثه من خلاعة ومجون وعبث بأجساد المسلمات وعقولهن، وقنوات تروج للتخلف وقتل المواهب وتدعي أنها تخدم الدين، وهي [كالعشب ليس لها زارع] تراها إما متشددة متزمتة متطرفة، وإما عابثة بالعقول تنشد الشعوذة والدّجل والإفراط في الإساءة إلى الإنسان الذي كرمه الله وإما تراها تمعن في إصدار الفتاوى التي لاضوابط لها ولا قاعدة تجعلها منسجمة مع المذاهب الفقهية والمناهج العلمية الأصيلة، ولحسن الحظ أن منابعها بدأت تجف لأنها فضحت نفسها بوقوعها في المحظور، وفي المقابل نجد فضائيات تجاريّة إباحيّة تظهر فيها النساء عاريات متشبهات بالرجال، قد تجردت من القيم وانزاحت إلى السوقيات والى الفاحش من القول، ونجد قنوات أجنبية محترمة تراعي الأذواق وتحترم المشاعر النبيلة هذا لا يجعلنا ننفي أو ننكر بأن لدينا فضائيات تحظى بالاحترا،م بل نعدها من الفضائيات المتميزة جدا ونفخر بها وخاصة في دول المغرب العربي كما نفخر ببعض الفضائيات في مشرقنا ونعتبرها رائدة الخلاصة وانه لابد من: 01 العمل على تكريس القيم المشتركة بالبناء والتعزيز والتحديث . 02 إعلاء قيمة الفكر النقدي ضد الخرافات والبدع والخزعبلات . 03 الابتعاد عن الشكل الوعظي في تقديم المواضيع الفكريّة ومخاطبة العقل والوجدان معا . 04- اعتماد البرامج الهادفة لمحو الأمية الثقافية والسياسية والدينية والتربوية وتجنب ثقافة محو الأمنيات وثقافة الإحباط واليأس والتخويف والتزييف.. 05 مواجهة الإسفاف والابتذال والإباحية ببرامج دينية وفنية وأدبية راقية كالتي تقدمها المستقلة، وقناة اقرأ، والرسالة، والجزيرة، أو التي تقدمها القناة القرآنية الجديدة في الجزائر، فمخاطبة عقل الإنسان وروحه ووجدانه يحرّك فيه التوق إلى الإبداع بدلا من مخاطبة الغرائز. 06 العمل على تحرير الشباب من متابعة البرامج التافهة وإحداث حصص ثقافية تنشيطية واعدة [ثقافة الفرجة] مسرحيات وأحوره وزيارات. 07 إحداث حصص لقراءة نصوص أدبية وآيات قرآنية، تحليل هذه النصوص والمسلسلات وإشراك القارئ المشاهد في إثرائها من خلال بحوث ومسابقات وقراءات موازية، والتصدي بكل جرأة وشجاعة للقنوات التي أفسدت الفكر وشوّهت الذوق، ونشرت الشعوذة والسحر والبدع، وجعلت المواطن الجاهل يركن إليها وقد وقع الكثير في حبالها والعياذ بالله. بهذا نجنب أمتنا الوقوع في فخاخ الدّجل والتخلف ولا نكون سببا في شقائها..ونعيد الاعتبار للمبدعين الشباب وما يكتب وينشر ونجنب شبابنا العزوف عن القراءة ونبعث في نفوس أدبائنا وكتابنا الثقة، فنقرأ لهم ونقدمهم ونقضي على ظاهرة الأديب يقرأ للأديب أو لنفسه فقط، إذ الانقلاب السلبي الذي حدث في حياتنا الثقافية كان سببه تقاعس المثقفين العرب وتكاسلهم وصمتهم، فهم يتحملون جزئا من المسؤولية، ولعل الظروف والملابسات جعلت الحرب الإعلامية تبتهل الفرصه وتشوه تاريخنا وثقافتنا وتسيء إلى معتقداتنا بطرق ملتويّة ماكرة ساخرة وأفكار خبيثة جعلتنا أحيانا نساهم في هذه الرداءة من حيث ندري أو لا ندري، فالتفاعل بين الشعوب والأمم يتم بواسطة اللغة واستعمال اللغة العربية بات مشوها في بعض الفضائيات العربية، مما يثير الدهشة والاستغراب ويجعلنا نتأكد بأن الأمّة العربيّة مستهدفة في أوطانها وفي دينها ولغتها وفي غيّمها وأصالتها وفي فضائياتها وان الفكر العابث تسرّب إلينا -أكثره - من هذه الفضائيات المحسوبة على الأمة العربيّة والتي تروّج للعاميّة واللهجات المحليّة واللغات الأجنبيّة وللشعوذة والدّجل، إنها تسعى إلى إعادتنا إلى البداوة العذراء فكرا ولغة وتعاملا ومظهرا، ووفق من قال :''.. عندما يخبو صوت الفلاسفة فانه يترك مكانه للصخاب...