01 - انطفأت حيويته، تقاضى عن تلك الدعابة، كفّ عن الحكايات الشعبية، أصبح صوته العميق يعتصر حنانا، إنه ما يلبث أن يحدثك إلا ويذكر عبث العابثين، ويشعرك بالإحراج وهو يسأل عن غياب المسؤولية، انعدام الوعي، الإهمال واللامبالاة، مذ صباح الأمس كان حزينا، كانت قسمات وجهه ترتجف، كان يتحدث بمرارة، يتساءل في حسرة وأسى، ما جدوى هذه التجمعات المبهمة التي لا تغير، ولا تتغير؟ ما الفائدة من كائنات بشريّة تدنس سمعة البلاد ولا تبالي؟ حثالة من الأجلاف، تسيء إلى جمال الطبيعة وسلامة البيئة، قلت مترفقا به، والسيارة قد انطلقت بحمولة تفوق قدرتها، هوّن عليك.. لست وحدك في هذا الوطن، غمرني بركن عينيه المجرّدة من الأهداب، تأوه، حسبت أنفاسه تتقطع، صاح: أليس هذا تآمر على تخريب الوطن؟ قلت: وما حقيقة هذا التآمر؟ قال: الكل يتساهل، الكل يريد نسف جسور التعاون، لماذا تراجع الاهتمام؟ لا أحد يتذمر من هذه البلايا، لذت بالصمت هنيهة، كنت خلالها أختلس النظر إليه، ولما زال عنه الغضب قلت: لا أحد بقادر على التغيير، فالأمية القانونية متفشية، والجهل عشش وفرخ، فيجب تغيير المناخ لكن من يغير؟ هززت رأسي متسائلا مثله وبقي فاغرا فمه مذهولا.. 02 - تركنا المواقع الخلفية للمدينة وارتدينا الأفق، أشعة الشمس تلامس أطرافنا، دخلنا منعرجا، باغتنا المشهد، كان فضيعا، صاح فينا يا للهول، المفسدون أكثر من الفاسدين، نحن نجلد ذواتنا، نغضب أنفسنا، نتظاهر بالاستقامة، لكن متى استقام الظل والعود أعوج.؟ قلت: ها أنا ذا يا سيدي مستائلا مثلك فماذا نفعل؟ قال: هذه استكانة واستسلام إي والله، لقد طفح الكيل قطع الرأس والذيل، فالويل لكم ثم الويل، ضغطت على شفتي السفلى، وأغمضت عيني اليسرى ثم تكتمت ضحكة وتظاهرت بالخشوع، انتفض أنصار البيئة كالديّكة، كانوا قلة لا يحتفل بها، رددوا صيحات الصمت، لفهم سكوت ثقيل، طالهم الإقصاء، إذ الحيل الدفاعية الواهية، تبطل المبادئ وتعطلها، إن مواقفهم الهزيلة جعلتهم ينساحون مع جوقة الدجل، فأطربهم الهذيان، ورقصوا وهم لا يحسنون فن الرقص، غاصوا في ذاكرة الأحلام الموشومة بضباب ردم الحقيقة، إن بهلوانية المواقف تجعل المرء لا يستوعب الحقيقة، ربما فعلوا ذلك تجنبا للمواقف التي تثير الخوف، فوقعوا في المهزلة الكبرى، تحول محيط المدن والحقول إلى مقابر!! هززت رأسي مستفسرا، هل الاهتمام مدمر؟ أجل.. في غياب الوعي يكون الاهتمام مدمرا، أراك متشائما، أجل أنا غاضب وغير راض عن هذا الوضع الكارثي، قال: أولا تذكر بأن هذه الدروب كانت مكسوة بغطاء نباتي متميز؟ ألم تكن الشجيرات العلفية متجذرة في هذه الأرض الطيبة؟ ألم تكن السدرة تظلل المكان، بل تمنحه شهادة الوجود، يا سبحان الله، بين عشية وضحاها تغيرت الأحوال، قلت: ربما تغيرت الحياة، قال: أريد أن أعرف ماذا حدث لهذه التجمعات؟ قلت: ربما في ظل بهلوانية المواقف وفي غياب الوعي، حدث تصدع في النسيج الاجتماعي، فأخلد أهل الأرض إلى الراحة، استمال أهل العقول الكسب، لذلك غابت الرعاية، أقبلوا على التربة فأنزفوها، سحقوا الكلأ على رؤوس الملأ، يصرخ مذعورا وكأنه أصيب بمس، يسكت قليلا ليبتلع ريقه ويسترجع أنفاسه، يداعب شنبه متأسفا ويصرخ متأوه ، متنهدا.. 03- إيه.. في لحظات الرحلة، الجدب ينهطل، يسكرنا الجو بسآمته، ينقلب النهار ظلاما، هل الطرقات ترحل.؟ هل الأرض تنتجع؟ ربما عشق الأرض يجدب؟ لا ندري، فحينما تضيق الأرض بالحياة نطارد الأمل عسانا نظفر بشيء تخفيه اللحظات، لكن الصوّر تمر مطفأة، الرياح تمسح دموع الموت، يا إلهي.. عمرنا خراب الأرض بفضلاتنا، رميناها في نشوة لاذة، ما أكثرها؟ ما أنتنها؟ ما أقبح هذه المشاهد؟ هل نحن نحسن صناعة الفضلات؟ ربما لنا قابلية للاستئناس بها،أطلقت الرمال رصاصات التحسر والتفجع، رقصنا على أنغام الزيف، في مفتتح حفل البيئة، قمنا يومها بالضخ اللغوي، سكبنا مكنوناتنا في مفارغ الجيف،أمواج يغمرها الطموح العابر،أقمنا الحدائق الغناء، زينا المحيط، أقمنا سوقا لملوثات المحيط، ألف كيس وكيس، تسربلت التلال بالأكياس الزاحفة، غطاء بكل الألوان، يا إلهي.. إن أوسع ما في الكون يضيق، أجمل ما في الكون يتحول إلى رعب الأشباح، هل ننكر الجهد الهمجي؟ هل نتحرى آثاره؟ أم ما نزال نحصي آثامه؟ فجأة تتوقف السيارة، تغوص في الوحل، يستيقظ الركاب على صوت أطفال تعساء، يصرخون، يتوددون، يا للعجب، إنهم حرموا من الغنيمة، وأي غنيمة أكثر سمية من التنافس على التقاط سموم النفيات، الدخان يزداد تصاعدا، الشاحنة تهرب، تولد أصوات الرعب، تتحول إلى مفرغة أخرى، حرية التفريغ مكفولة، يرفع الشريف يديه العاريتين، يضع إبهامه في عينيه يعود بعكازه، يفتش عن دودة الأرض، الطين منهمك، الرمل متمرد، رفقا بالتربة. رجاء، يسأل الراعي. رفقا بالشياه.أين شجيرات المراعي.؟ تكتض الأصوات، تتصارع الأفكار، يلملم أطرافه، العاصفة تجلجل كيانه، ترعبه، ماذا أرى؟ ''يا شريف'' مشروع حماية البيئة أصبح أثرا بعد عين، صوب نظراته نحوي، تغيرت ملامحه، ابتلع غضبه في ذهول، صرت أرنو إليه، غاب خجلا، استفاق فجأة، كأن أحدا صب عليه ذنوبا من الماء، علا صوته الساخر بأسئلة استنكارية لافتة، أقطعان من العنز هذه.؟ أم تيوسا متعاركة.؟ أم هي أسراب من الغربان تطير وتحط، تغطي الحقول؟ يا للهول ماذا أرى.؟ إنها تلتف حول شجيرات السدرة، تنحبس داخل أغصانها، تحركها الرياح، تتمزق أشلاء، تنشر أجنحتها لتخفي بشاعة المشهد، لكن ما بالها تطلق ضفائرها.؟ 04- وا أسفاه.. لم تكن كائنات غريبة، ولا عنزات، ولا طيورا مائية، ولا تيوسا، ولا خرافا، ولا غربانا، ولكنها أكياس بألوان الطيف، أطلقت ضفائرها، تغري عشاق الليل بعبق المكان، زرعت لحماية البيئة وكأن هذه الروابي لم تكن مطروقة من قبل، ترقص الأكياس منتفضة مع أطياف السراب، تؤلف سحبا داكنة، تصنع مناظر سوداء، تحلق في فضاء مدلهم ترحل مع الطيور، تنافسها في الطيران، تستأنس بها حينا وترافقها في الرحلة.. يتعجب ''الشريف''.. يتعجب معه رجال البيئة، أنصارا وأعداء، يتعجب المتعجبون، ولا عجب أكثر إثارة من هذه المهزلة، كيف يحتمل الفضاء هذه الفضلات.؟ وأين تستقر.؟ لكن لا تلبث الرياح أن تعيدها إلى الأرض سالمة بعد أن تنفخ فيها عبثا، فالأرض هي المأوى والمستقر، والحقول مقابر لاحتضان السموم، وتبقى العيون شاخصة، تلتهم الصور، إذ الأكياس تتحرك، تغمر خراب الأرض وعمرانه، تركض بدون أقدام، تغيب وتظهر، تزركش الحقول بالأوهام، تطوق الأسوار بالأعوام، تكسو برداء الموت كل الآمال والأحلام، تدفن ما عمر الإنسان دهرا وأعواما، تبكي الطبيعة في مسائها الحزين، بكاء مرا وأليما، يسمعها الليل آخر أشعاره، يكتبها بمداد رمادها، قصائد يؤطرها اللون الأسود، يكتبها التاريخ بآهات الصمت، ربما الآهات أشعر من الشعر، هنا يطربنا حفيف الأكياس، هناك يفزعنا المشهد بقصة الزمن.. ''الشريف'' يحلف بالله إنه سرد القصة بكامل فصولها ومفاصلها، قرأها رجال السياسة، وكبار في الرئاسة، أمتعت الحكاية أنصار البيئة وأعداءها، تغني أطفال المدارس بيوم البيئة، جاءوا بعنزاتهم البيضاء، الخراف تغازل الأكياس، العنزات تعانق الشجيرات ''الشريف'' يلملم الحزن في فرحة ساخرة، يهتدي إلى نقطة البداية، وقد صودرت الرسالة في النهاية، ويطوي سجل المشروع إلى حين. 05- إذ الفساد يبقى مهيكلا لمنازلة الحقيقة، والنار تحرق واطئيها كما يقال ونحن حرقنا ذواتنا بنار فضلاتنا، في يوم القطيعة مع الوسط، يتحرك ''الشريف'' لكنه لا يصل، ففي بيته تمرد العيال، دخلوا منعرج الانحراف المتاهي، يطل برأسه من بعيد، يتساءل: هل الحقول ترحل أم أنها ترحّل.؟ ماذا يحدث يا ناس؟ حرك ذراعيه بقوة، راح يذرع أرض المرعى جيئة وذهابا، أرعبه المشهد، كان في كل مرة يؤجل التأسف، لكن إلى متى؟ هذه المرة انشطر فكره، غاب ذكره، تاه عقله، وخسر الإقناع، ولم يعد يقتنع، يشهد شاهد من أهله على الهزيمة، فيعبر بأجنحة الحروف عن جيوب البؤس، يهامس نفسه، ينتقي همومه من قاموس يومياته المغيبة، يلملم نصف أوراقه، يهدي للبيئة نصفها الآخر، ويفسد مسؤول القبيلة مع المفسدين، فسادا لم يحدد أنصار البيئة شكله ولا قبحه، تعلو الأكياس الوادي، تهبط، تتجمع، ينزل بعضها على بعض، يعبث بها الصبية، تتحرك من مكان إلى آخر، تتكدس على أطراف المدينة، تحتمي تحتها الحشرات، وتتوسد الجيف بعض الكلاب الضالة، وتنافسها القطط التائهة، البؤساء من الأطفال يجنون ثمار بؤسهم، يشملهم ''الشريف'' بنظرة مستريبة، يضع يده على موضع الألم، يتنامى القلق، يطيش الخبر أسماع ''المير'' يفزع لاهث الأنفاس، في أوساط الناس، يحرق الأكياس، ويوقف بدخان ناره كل الأنفاس، يوزع المطويات، يؤجل أمر التأسف إرضاء للعواطف والمعارف، يتراجع ''الشريف'' يصفر لكن لا يلبث أن يمسك لسانه و يضع يده على الأخرى ليعصرها ترحما على ضحايا التلوث البيئي الرهيب، فجأة يمد بصره إلى السماء ويقول: يا الهي.. إني أرى شعاع الأمل يتسلق أسوار المدينة رويدا رويدا، ويلامس أغصان الأشجار بلطف، وإن الأسئلة الشافية.. تكبر.. وتكبر.. ولكنها أمام زحف الأوبئة وغياب الوعي تبقى بدون جواب ..