01 - تاه الفؤاد فامتطيت النبض، وما إن دلفت باب الحوش حتى سبقني إليه بصيحة وجيعة، يا صغير.. ما عاد عصفور الصباح مزقزقا، همست في أذنه.. مه.. إشراقات البيوت في ساكنها، في نور مصابيحها، قال: أين أهل البيت؟ قلت: صه..أنت زائر.. قطب جبينه وحرك رأسه، أعرف أن الديار تتقدس بأهلها. وتعرف بساكنها، قلت: و تكتسب هيبتها بذلك الحضور القوي لكبارها، ارتجفت شفتاه، واغرورقت عيناه، ثم مسح على جبينه عرقا متصببا وصاح: إني أشعر بضيق في التنفس، وبالقلب يرتجف، مذ وطئت قدماي عتبة البهو، شعرت برعشة قوية وبحالة من الاكتئاب، لا أعرف لها مصدرا ولا أجد لها تفسيرا، سكت برهة ليسترجع أنفاسه المصعدة.. يتنهد.. لا أدري ماذا يحدث في هذا البيت؟ربما فقد إشراقته باختفاء الكبار، قد يكون ذلك صحيحا.. لكن الأبناء كانوا طيبين، فمّم تشكو وعم تتحدث؟ جال ببصره في أرجاء البيت، هل يصدقني الريح إذ ينثر تربته ويحركها؟ بم توحي لك المستوطنات العنكبوتية الرابضة في الزوايا وعلى الرفوف؟ إنها تشكل جداريات البؤس، تحاصر المكان بتشابك خيوطها المزعجة، لماذا لا يتحرك العيال؟ لعلهم رضوا بهذا الوضع.. فثقافة الصخب ما تزال سائدة، ألا ترى في الغياب سببا؟ أجل.. ربما الجماعة تنافر ودها وغاب عزها، صار الريح يصفع بغباره وببرده داخل الغرف، فينكمش الجسد، ويرفض أن يحتمي بالظلال، لذنا بالصمت هنيهة، في ثناياها استرجعنا أشلاء الذكريات الرواحل، امتدت أصابعنا لمداعبة فناجين القهوة، وحطمنا جدران الصمت بابتسامات مازحة، احتسينا ما في الفناجين وتجاذبنا عذب الكلمات سأل رضوان.. لماذا نسلم الذاكرة لشتاء العمر.. لغيمة تعبث بنور الشمس، لعلنا نخفي وهج القرص المتعب، كأن الحوافر تدوسه، رويدك سيدي أنا لست غافلا ولا متواطئا، لعلكم تتوهمون أن قرص الشمس قادر على قهر السحاب، أو تعتقدون أنه قادر على تبديد ظلمة المكان لوحده؟ قد يكون القرص متباهيا بانكسارات الضوء، وقد يجد في العتمة لذة الاختفاء، ينتفض قائلا: في ذلك السحاب تكمن الحياة، الألم جعلني أحس بالحياة، حتى وان كان فجر الحكاية مرتحل... 02- قال فيما يشبه الهمس: إني والله أبحث عن شتات أفكاري.. عن تلك البيوت التي خمد فيها صوت الجماعة وخفت.. بات يتناقص نورها، يحزنني أن تكون الظلال حارقة، لكن ما عسانا نفعل؟.. وقد ينكسر الحلم لحظة البوح بالحقيقة، ما هي الأسرار التي استعصى فهمها؟ قال: تلكم التي ترويها الجدة لكبار الجماعة وهم في منفاهم، إيه.. يتوق الزائر لسماع الحكاية، ويخجل المزور من الحكاية، ونصير في هذه الغرف العارية سلعة في كف مبتاع، تداعب أسماعنا قهقهات بائسة كأنها محاصرة، يرمقني بعينين سهميتين فانزوي وقد أودعت قلبي الوسادة، أحركها فيتحرك نبض القلب المتعب، أتابع مرافعات رضوان الهادرة، وأحاديثه المبتذلة وهو يروي قصصه المستهلكة، فيحرك مواجعي، يصر على سرد الأسماء التي طواها الثرى، فأمتطي الصّمت والريح مزمجر، وأردّد صلواتي عليهم كرجع الصدى، يسأل أسئلة متعبة، هل الموت يسكن معكم؟ أم أنه ينفرد بالعيال فيخطفهم فرادى وجماعات؟ يمسح على الخدين ما كان جاريا، يتململ ويجيب بانفعال، نحن مهيؤون للموت، نرضى به قضاء وقدرا، فهل أنتم ترفضونه؟ ويضحك بصوت مجلجل ويحتسي ما في الفنجان دفعة واحدة، فيقاطعه رضوان، لماذا لا تتهيؤون للحياة؟ هههاه... أما علمت بأن الموت هو الأقل تكلفة؟ هههها أجل.. يساهم في القضاء على البطالة، والتهميش.. يخفف من أزمة السكن والعزوبية.. يوفر للعيال لقمة العيش، لكن لماذا لا تستبدلون البؤس بالرفاهية والموت بالحياة؟ يقطب حاجبيه المرتجفتين بعد أن استولى على فمه الذهول، ينظر إليّ بنصف عين والعين الثانية مغمضة.. هل بالإمكان إدراك ما نتمنى؟ الناس في وضع محير، مع أنهم بخير.. ما نخشاه هو سوء التدبير، نحن كمن يشتري رماد أسرته بعد أن يقوم بحرقها، فجأة أمسكنا عن الحديث ولذنا بالصمت اثر دخول فتي غمرنا بنظرة شاتمة، ورمانا بكلمات راعدة، جعلتنا نتهيأ للمواجهة وتسفيه أكاذيبه، لكن ما لبثا أن اكتشفنا أنه يعاني من أزمة نفسية، في هذه اللحظات يتحرك بركان شيخ هرم من بقايا الأسرة ربما يكون قد نسيّه الموت، كان يجلس في ركن قصي من الغرفة، لم ننتبه إلي ، كان ملتصقا بالمدفأة تخاله جزءا منها، قد دسّ رأسه بين فخذيه بإحكام، وأخفى أنفاسه الراعشة بين جوانحه، يصرخ مات الرجال ومن لم يدركه الموت، هو تحت الإقامة الجبرية مع القواعد .. 03- يهرع رضوان معانقا، وقد اعترته الدهشة هذا عمي... يا سبحان الله، طفق يقبله، نحن نسعد بكم يا عم، الكبار هم فاكهة المجالس، هم مرآة العمر، نحن نرى أنفسنا فيكم ونتعلم منكم كيف نكبر؟ فجأة اشرأبت الأعناق صوب ذلك الفتى وهو يقول:الموت أسبق بخياركم، يرمقه الشيخ و يقول: ''..خيركم من طال عمره وحسن عمله ..'' فيصرخ رضوان متأسفا: هذا واحد من الدمى المبرمجة ''..وقفوهم إنهم مسؤولون...'' أصبنا بالدهشة والانذهال، وصار الصمت الممتد بيننا في نبض المعاني كشوكة في اللسان، تحاصر الابتسامة، ينفخ رضوان في يديه عله يظفر بدفء المكان، يهتز الشيخ ساخرا: هو ذا الزمن يصنع الأشياء، ينمطها ويجعلها نماذج سيئة ثم يتلفها، وتبقى الذكريات مرحلة، تلاحق عشاق المكان، ووشوشات المساء تسلبنا الفرحة، عوانس في الحوش يحاورن الأمنيات، أخريات يتعاركن من أجل حذف نون النسوة، يتمردن متشبهات بجمع التكسير، أرامل يبحثن عن ابتسامة، فقدت شكلها وطعمها في تصدعات الجدران وتشققاتها، تتيه الكلمات الحلوة والابتسامة الراعشة في حلم المنتهى، نسوة يعشن لوحدهن في الحوش كأصحاب الكهف، في كل موسم يعدن صدى الحكاية، وحكايتهن كألف ليلة وليلة بدون نهاية، فأين الرجال؟ الذين تسلقوا جدران عمتي وخالتي.. كانوا كالأفراخ في أحضانهن، أين الرجال؟ لم يلتفتوا إلى هذه المرابض، تجاهلوا الحكاية من البداية، فأين هم؟ لعل البنات في الحوش يسردن الحكاية وزوابع النسيان تلفهم، تحدثنا إليهم والقلوب تعتصر مرارة.. يضيع الحلم الجميل ولا أحد يسأل عنهن، أين الرجال؟ العوانس يرعين الأمهات في الحوش المهجور، لم تبقي فيه إلا دورة الماء صالحة، أين الرجال؟ الركب أرهقه الترحال وسوء الحال، وأسدل دونهم عتم الليالي، سفينة الهجر تبقى مبحرة، يا صبر قلبي على البنات الصابرات في سجن الحياة، على الرجال الذين قهرهم الزمان، وأسكتهم الفقر وسوء الطالع، أنا من هول هذا الهول أسكن في ربيع العمر قبرا لا يسعني، أخاف أن تطوى سؤالاتي في جمع الجموع، وتهرب عن الأمنيات الدروب، فيقودني القدر إلى النسيان، فأنسى من في الحوش ومن تقادم عهده من الأهل... وتبقى جفون البيت مقرحة...