-الكتابة.. هذا الفعل المضني هذه العملية المرهقة لجريئة... العبثية.. لعلها الفعل الوحيد الموجه للآخر وليس لصاحبه.. تخرج الكلمات من صاحبها تكتب تطبع توزع وإذا هي بين يدي الآخر... يأخذها يمتلكها يقرأها كيفما شاء.. تفعل فيها نزعاته وهواجسه وتفعل فيها غباءه أو ذكاءه خبثه أو براءته ما تشاء .. كما يكتب الكاتب بحرية يقرأ القارئ بحرية.. لا شيء يتدخل من الكتاب وقارئه، من الكلمة ومتلقيها .. العين تقرأ.. والعقل يحلل ..العين تقرأ والفكر يشرح .. العين تقرأ والأفكار تتعانق أو تتناطح، العين تقرأ والخلفيات تتزاحم.. العين تقرأ والخبث يتقافز .. العين تقرأ والعشق يتوالد، العين تقرأ والكره يتنامى.. العين تقرأ والولاء يزيد، العين تقرأ والحقد يغلي .. العين تقرأ والغل يفيض.. العين تقرأ والمدح يبدع.. العين تقرأ والذم يزهو.. العين تقرأ والقبول يزغرد.. العين تقرأ والرفض يصرخ .. العين تقرأ والرضى يهلل.. العين تقرأ والنفور يجن ..العين تقرأ والإشراق يحل.. العين تقرأ والحسد يفور.. أشياء كهذه وأكثر يعرفها كل من يمارس فعل القراءة من فئة القراء العاديين وغير العاديين. أما إذا كان القارئ ليس قارئا فقط أي أنه يمارس الفعلين معا: القراءة والكتابة وإذن فهو ما فوق قارئ له خصائصه وطقوسه، من يمارس فعل الكتابة قراءته ليست أي قراءة وكفى فهو يرى في النص غير ما يراه القارئ العادي، ويتعامل معه بطريقة مختلفة، ويتعاطى مع مدلولاته وكلماته بشكل آخر.. ما إن يسقط النص من يديه حتى يستدعي كل خلفياته وخبثياته ويقابله بكل ما أوتي من ظنون وتهم مسبقة وأخرى مؤجلة يشرع أو لا في قضمه من الحواف ليتذوق طعمه، هل هو مستساغ فيواصل الأكل .. أم هذا مقزز فيبصقه وينحيه جانبا. وقلما يتحلى الكاتب منا عندما يجد نفسه أمام نص لآخر ببراءة ونزاهة، وقلما يتعامل معه بنبل وحيادية وروح ثقافية عالية.. ثمة من يدخل النص مدججا بأحكام مسبقة مملوءا بأفكار مغلوطة كالاستهانة بصاحبه أو الاستخفاف بإنتاجه فاذا هو بين يدي نص ما كان يتوقع منه ذاك الرقي وذاك الإشعاع الإبداعي.. يقرأ ولا يصدق ما يقرأ.. من أين له هذا اللغة؟ من أين له هذه الكلمات؟ من أين له هذه الحبكة؟.. كيف لم تخامرني وأنا الكاتب المعروف الروائي الشهير وعندها تتهيج مكامن الغيرة في قلبه وتضطرم نار الحقد في صدره فيجري للمعاول والفؤوس وينهمك في نبش الفقرات وتقليب السطور وتشريح الكلمات فما يزيده ذلك إلا قهرا وخيبة، ولكنه لا يستسلم، فينهمك في عد الفواصل والنقاط ويشرع في تسجيل كم من فاصلة ناقصة، كم من كلمة كررتها المطبعة إلى غير من تفاهة الملاحظة، ولا يكفيه ذلك فيشرع في توهم أشياء وأخطاء لعلها من محاسن النص وإيجابياته وجديده.. يحب أن يقول لكاتب النص غلطة وإن صح.. يا ويل النصوص التي تسقط بين أيدي قراء من فئة الكتاب الذين في قلوبهم مرض.. يا ويل من وثق في كل كاتب مثقف وظن أنه خليفة نبي على الأرض، وحسب أنه يتمتع بدرجة رفعة والنزاهة وأمانة لن يرقى إليها أي كان.. لن أقصد هنا من يعتريه ذاك النوع من الغيرة الموجبة .. الغيرة العزيزة التي تخامر الكاتب عندما يجد نفسه أمام نص أبهرته جمالياته وأسرته شاعريته وسحرته معانيه وكلماته فلا يملك إلا يبدي إعجابه وتهانيه الصادقة لمؤلفه متمنيا بصفاء لو كان هو صاحب النص وأن يتوصل ليكتب مثله ذات يوم ليس هذا النوع من أقصد، بل إني أنزعج وأتأسف حد القرف من ذاك القاريء/الكاتب الذي ينصب نفسه من أول فقرة لنص روائي وقصة أوغ يره يأتي تحت ناظريه شرطيا مشهرا مسدسه في وجه أي شيء يتوهمه في ذاك النص .. الحسد الإبداعي مرض يعشش مع الأسف في نفوس الكثير من مبدعينا، ولكن رغم شروره وقبحه فإن أذيته وإن تصيب في جانب منها الكاتب الضحية إلا أنها في الأخير تعود على صاحبها لتلبسه ثوب الدناءة والسفاهة وتطوح به بعيدا عن شيء اسمه النقد البناء والقراءة الصريحة الشفافة النزيهة لأي نص. قراءة المبدع لنص غير نصه نجدها في غالبة الأحيان إما ملفوفة في ثوب تمجيد مخزي ومجاملات مضحكة تفرضها علاقات صداقة أو مرامي منفعية بين الطرفين، أو أنها تجعل من النص الذي تغيضها رفعة مستواه وتمحقها قيمته الأدبية أداة لضرب صاحبه ظنا منها أنها تجعله على حافة الساحة الإبداعية التي يرغب هذا الصنف من الكتاب في امتلاكها وحده.. لذا تراهم يسارعون لخنق كلماته وذبح نصوصه إن تفضح حقيقتهم الواهية وتزيحهم من مكانة يعرفون جيدا أنها ليست لهم.. الغريب أن هذا الصنف من القراءة الهدامة رغم علمها بأن لا شيء يغلب الحقيقة ولا شيء يقتل أي عمل إبداعي أو يحييه سوى معيار عموم القراء ونسبة المبيعات وليس رأي هذا الكاتب أو ذاك.. أن يحتفل عامة الناس بنص ما ذاك فوزه الحقيقي مهما كان حكم الآخرين، ومع ذلك تبقى العام أكيدة لحركة نقدية فعلية قادرة على سد الباب في وجه أشباه المبدعين الذين لم يبدعوا في كتاباتهم مثلما أبدعوا في خدمة أنانيتهم.