تمهيد: لست من المتشائمين أو من أولئك الحاقدين الموتورين الذين ما فتئوا يقدحون في كل مشروع تشتم منه رائحة الوطنية والأصالة، فراحوا بكل وسائلهم ينعتون المنظومة التربوية الوطنية وفي كل مستوياتها، بأقبح الصفات وأخطر الاتهامات، فكان أهم هذه الادعاءات على فجاجتها وتعميمها، أن هذه المنظومة ''المريضة'' و''المنكوبة'' قد أفرزت ثقافة العنف واللاتسامح، وأنها أنتجت جيلا من المعوقين لغويا ودينيا، يدعو إلى الأصولية والإرهاب، إلى غير ذلك من الترهات والأراجيف التي لا تستند إلى أي منطق، ناهيك عن الموضوعية المستخلصة من البحوث العلمية الرصينة، بل هي في حقيقة الأمر، سموم اعتادت على بثها شرذمة متمرسة في قلب الحقائق، متمكنة ومتجذرة في بعض دواليب المؤسسات والهيئات النافذة، إنهم ببساطة دعاة الاندماج القدامى والجدد، الذين كانوا سببا في تأجيل استعادة الشعب الجزائري، سيادته وحريته وإطالة محنته، ولولا تصميم هذا الشعب على تجاوزهم ليلة الفاتح من نوفمبر 1954 وإقدامه على بذل التضحيات الجسام وصبره ومعاناته التي مازالت آثارها ماثلة إلى اليوم، لاستمر ليل الجزائر، ولاستمر الاستعمار جاثما على رقابنا متحكما في أنفاسنا وأرزاقنا، حالنا في ذلك حال كثير من الشعوب الإفريقية التي مازالت إلى اليوم تعاني ويلات الاستعمار، وأهمها السيادة المنقوصة أو الشكلية. إن المنظومة التربوية الوطنية رغم حداثتها وتواضع إمكاناتها المادية والبشرية، قد حققت بشهادة إحدى أكبر المؤسسات العلمية العالمية نتائج لم ترق إليها أعرق المنظومات التربوية في العالمين المتقدم والمتخلف، فهذا رئيس جامعة هوبكينس ''Hopkins'' الأمريكية، يشيد بالمستوى الجيد للطلبة الثانويين الجزائريين المنتسبين حديثا إلى هذه الجامعة المرموقة بل، إنه يصرح بتفوقهم على كثير من أقرانهم، والدليل على هذه الحقيقة، وجود العشرات إن لم نقل المئات من العلماء الجزائريين الشباب، خريجي المدرسة الأساسية والجامعة الجزائرية الذين يتبوءون عن جدارة واستحقاق مناصب علمية هامة في مراكز البحث بالبلدان المتقدمة، كأمريكا وكندا واليابان ولا أقول فرنسا، لأن علماءها وباحثيها ومخترعيها البارزين، ينشطون علميا بالبلدان سالفة الذكر، وينشرون أبحاثهم باللغة الإنجليزية رغم السياسة الصارمة التي ينتهجها إزاءهم المجلس الأعلى للغة الفرنسية، هذا المجلس ولأهميته القصوى، يشرف عليه رئيس الدولة الفرنسية شخصيا، لقد عزف كثير من العلماء الفرنسيين، عن نشر أعمالهم العلمية باللغة الفرنسية، بعد الخصومة الشهيرة بين العالم الفرنسي ''لوك مونتانيي'' (Luc MONTAGNIER) والعالم الأمريكي ''روبرت غالو'' (Robert GALLO)، وذلك في قضية اكتشاف فيروس فقدان المناعة المكتسبة (HIV) المعروف حاليا، بداء السيدا (Sida)، فبرغم السبق الذي حققه العالم الفرنسي سنة 1983 إلا أن الأمريكي نازعه فيه وقد حاول الإعلام الفرنسي المتخصص كمجلة (Science et vie) تفسير هذه الخصومة العلمية بأسباب ودواع تقنية وسياسية، متجاهلا السبب الحقيقي في ذلك كله، ألا وهو اللغة، فبحث الفرنسي المنشور باللغة الفرنسية، لم يتسن للعلماء الاطلاع عليه، بينما اطلع الكثير من العلماء في العالم، على اكتشاف الأمريكي المنشور باللغة الإنجليزية، لغة العلم المهيمنة على وسائل الاتصال. وعليه - والحالة هاته - نتساءل، أين يكمن الخلل إذاً ؟ هل هو في المنظومة التربوية ؟ أم في أولئك القائمين على تطبيقها من خبراء تربويين ومسيرين إداريين أو ساسة مشرعين، ينتمون إيديولوجيا وحضاريا إلى الفئة المذكورة أعلاه، هؤلاء الذين ما فتئوا يتذرعون بحجج واهية مثل ''غنيمة الحرب'' و''المكسب الحضاري'' و''اللغة المشتركة'' (؟!!). إن هذه الفئة التي تصر دائما، على أن نمتطي قطار اللغة الفرنسية والفرانكوفونية، هذه المنظمة التي ظاهرها، التعاون العلمي وباطنها، استمرار الهيمنة الاستعمارية وذهنية ''الرعايا'' (Sujets) هي في حقيقة أمرها، فئة تحركها دوافع نظرية ''القابلية للاستعمار'' للمفكر الجزائري الكبير، مالك بن نبي، وذهنية ''الاستلاب ''Aliénabilité'' التي جعلت من هذه الفئة مخلوقا ممسوخا، فاقدا لحريته الفكرية، معطلا لكل ملكاته ولقد عرف ماركس حالة ''الاستلاب'' هاته، بالوضع الذي يعيشه ذلك الشخص الذي لا يملك المنتوج ولا وسائل إنجازه أو إنتاجه، فهو مستهلك وعالة على غيره !! وإذا أردنا تفصيلا في هذه النقطة تحديدا، أشرنا إلى ما يقرره علماء اللسانيات الحديثة في تعريفهم الوظيفي للغة، فهذا العالم اللساني السويسري ''سوسير'' (Saussure) يقول ما معناه « اللغة متعددة الأشكال، فالإضافة إلى كونها سماعية، فهي طبيعية وذات ميزات وظائفية ونفسانية، وبذلك فإنها تنتمي إلى المجال البشري، الفردي والاجتماعي» وبناء عليه، فاللغة كائن اجتماعي وكأداة تبليغ وتواصل، فقد تطورت وسائلها وإمكاناتها حسب تطور الناطقين بها، تجسيدا وتجريدا أو تعميما وتفصيلا، واللغة من حيث قواعد نحوها وصرفها وقاموس مفرداتها، لا تتضمن انحيازا أو عدوانية أو طبقات متمايزة لدى مستعمليها فهي برغم اعتباطية بعض مبانيها، إلى الحياد والموضوعية أقرب، لكن ظروفا طارئة كالاستعمار مثلا قد تنحرف بمستوى التبليغ، فتضمنه إيحاءات ورموزا تسئ إلى غير الناطقين به الأصليين، وتخدش ذاكرتهم الجماعية، واستمرار هذه الظاهرة مع اللغة الفرنسية هو الذي أحدث في نفوس أغلبية الشعب الجزائري، والنخب الوطنية المتشبعة بقيم الحضارة العربية الإسلامية على وجه الخصوص، شعورا باستمرار هيمنة المستعمر عبر لغته وما تحمله من شحنات تعبيرية - تاريخية سلبية، وفي هذا الإطار، فإن الدوائر الرسمية المتحكمة في اللغة الفرنسية، لم تستطع التخلي عن الماضي الاستعماري للغة والثقافة الفرنسية بخلاف اللغة الإنجليزية، التي تجاوزت عقدة المستعمِر والمستعمَر، فتبنتها معظم الشعوب، تتساوى في ذلك الشعوب التي استعمرتها الإمبراطورية البريطانية، أو التي لم تستعمرها وصارت الإنجليزية اللغة العالمية الأولى بلا منازع، دون أن نهمل طبعا عوامل أخرى أهمها، العامل الاقتصادي وكل الأدوات والوسائط المكملة له، كالإعلام بكل أنواعه ووسائله. في هذا السياق، لابد أن نشير إلى الوضع اللغوي الذي يعيشه المجتمع الجزائري عموما، والمؤسسة الجامعية خصوصا، وهو وضع أقل ما يقال عنه، إنه شاذ بالنسبة لمجتمع ينتسب إلى أعظم وأعرق حضارة إنسانية شاملة، أسست وأسهمت في كثير من جوانب الفكر والمدنية التي وصلتها اليوم المجتمعات الراقية، كما أنه مناف لكل المعطيات العلمية وقوانين المعرفة الإنسانية (Epistémologie) التي أثبتها علماء الاجتماع واللسانيون في مجال تعلم اللغات، وضرورة اكتساب المعرفة عن طريق ''لغة الأم'' مهما كانت بدائيتها فإذا كانت الحال بهذه الأهمية، مع اللغات البدائية ؟!! فكيف يكون إذاً مع العربية ؟!! هذه اللغة المتكاملة في مبانيها ومعانيها، يتجلى ذلك في قواعد نحوها وصرفها وغنى ودقة مفرداتها، وهي فوق هذا وذاك ذات نظام صوتي يتسم بالمرونة والتنوع، لم يجتمعا لأية لغة من لغات البشر!! وهي برغم تأخر وجمود مستعمليها في شتى مجالات الحياة، إلا أنها غير عاجزة ولا قاصرة عن استيعاب كل ما تم التوصل إليه في ميادين العلوم الدقيقة والطبية والتكنولوجيات المتقدمة، بل إنها اللغة الوحيدة التي تعطي لكل عضو مهما دق وصغر، من أعضاء جسم الإنسان اسما يميزه عن باقي الأعضاء!! فالأسماء في اللغة العربية قائمة بذاتها، ولا تلجأ إلى النحت أو التركيب بأنواعه، إلا في حالات نادرة فرضتها عادات واستعمالات لغوية حديثة فالعربية المتميزة بسعة وشمولية مدونتها (Corpus)، جعلت من الصعب أن تجد كثيرا من اللغات قديما وحديثا، مرادفا أو مقابلا لبعض مفرداتها!! فعمدت إلى تبني هذه المفردات كتراث إنساني مشترك والأعجب من هذا، وجود وإلى يومنا هذا، كثير من مفردات القرآن الكريم التي لا مرادف لها في أية لغة قديمة أو حديثة، وهي حقيقة أثبتها وأكدها الأستاذ / الجراح موريس بيكاي ( Maurice BUCAILLE) في كتابيه الشهيرين: 1 - الإنجيل، القرآن والعلم - La Bible le Coran et, la science 2 - الإنسان، من أين أتى-L'homme doù vent il وقد تناول في هذين الكتابين الهامين، النصوص الدينية المكونة للتوراة والأناجيل الأربعة المتداولة مقارنا إياها مع القرآن الكريم، وما أثبتته الاكتشافات العلمية الحديثة. ومن هذا المنطلق، فإننا لا نرفض أية لغة بإمكانها تقديم إضافات وإسهامات ثقافية وعلمية، لا نملك الأدوات والوسائل اللغوية اللازمة لتحقيقها بل، رفضنا نابع من قناعتنا بأن لغتنا وبفضل إمكاناتها التبليغية اللامحدودة، قادرة على تجاوز كل العقبات والتحديات، فالعجز فينا وليس في اللغة العربية ولا نقول أكثر من هذا، حتى لا نتهم بالتعصب والشوفينية أو التحجر ؟!! هذا، ويزداد الوضع تعقيدا وخطورة بسبب غياب سياسة وطنية في مجال اللغات بصفة عامة، فبرغم الشوط الكبير والإيجابي الذي قطعته المدرسة الجزائرية في ميدان التعريب، فإن طلبة الجامعة، وخاصة المنتسبين منهم إلى الفروع التقنية والطبية، يعانون عدة مشاكل لغوية، ولم يشفع لهم تفوقهم في المواد العلمية من إنهاء دراستهم في وقتها المحدد، فيضطرون بعد إخفاقات متكررة، إلى تغيير الشعبة أو التوقف نهائيا عن مواصلة مسارهم الجامعي، وفي هذه الحالة وبسبب الوضع اللغوي السائد في الجامعة والمتميز بعدم التكيف مع التكوين القاعدي للطالب، فإن كفاءات وقدرات علمية هامة كما ونوعا، سيكون مآلها التهميش ثم الاضمحلال، لقد كان من اللغو والعبث، طرح إشكالية اللغة في التعليم الجامعي، لو أن السلطات الوصية قامت بدورها في مجال إعداد الأساتذة وإلزامهم بتقديم دروسهم بالعربية أو ترجمتها لاحقا، وتوزيعها على شكل مطبوعات بالإضافة إلى هذا، إنشاء مؤسسة متخصصة في ترجمة وطبع أهم المراجع التي تعتمدها الفروع العلمية سالفة الذكر كما هو موجود في كثير من الدول التي تعاني المشكل اللغوي رغم أن بعضها لا يمتلك لغة معترف بها عالميا إذ لا تتوفر فيها مقومات وشروط اللغة، كالفيتنامية والعبرية وكثير من (اللغات) الآسيوية والإفريقية. إن الاستخفاف بهذا الجانب وعدم إعطائه الأهمية اللازمة باعتباره مقوما أساسيا من مقومات الشخصية الوطنية في كل جوانبها وأبعادها، هو الذي أحدث هذه الاختلالات والتصدعات الاجتماعية التي أفرزت جيلا يشكو الفصام (Schizophrénie) وغياب الهوية أو الشعور بعدم الانتماء، وهل هناك آفة أخطر وأفتك بالمجتمعات والأمم من هاته الظواهر المرضية؟!! ملاحظة: للدراسة مصادر ومراجع ... يتبع