تمهيد: لست من المتشائمين أو من أولئك الحاقدين الموتورين الذين ما فتئوا يقدحون في كل مشروع تشتم منه رائحة الوطنية والأصالة، فراحوا بكل وسائلهم ينعتون المنظومة التربوية الوطنية وفي كل مستوياتها، بأقبح الصفات وأخطر الاتهامات، فكان أهم هذه الادعاءات على فجاجتها وتعميمها، أن هذه المنظومة ''المريضة'' و''المنكوبة'' قد أفرزت ثقافة العنف واللاتسامح، وأنها أنتجت جيلا من المعوقين لغويا ودينيا، يدعو إلى الأصولية والإرهاب، إلى غير ذلك من الترهات والأراجيف التي لا تستند إلى أي منطق، ناهيك عن الموضوعية المستخلصة من البحوث العلمية الرصينة، بل هي في حقيقة الأمر، سموم اعتادت على بثها شرذمة متمرسة في قلب الحقائق، متمكنة ومتجذرة في بعض دواليب المؤسسات والهيئات النافذة، إنهم ببساطة دعاة الاندماج القدامى والجدد، الذين كانوا سببا في تأجيل استعادة الشعب الجزائري، سيادته وحريته وإطالة محنته، ولولا تصميم هذا الشعب على تجاوزهم ليلة الفاتح من نوفمبر 1954 وإقدامه على بذل التضحيات الجسام وصبره ومعاناته التي مازالت آثارها ماثلة إلى اليوم، لاستمر ليل الجزائر، ولاستمر الاستعمار جاثما على رقابنا متحكما في أنفاسنا وأرزاقنا، حالنا في ذلك حال كثير من الشعوب الإفريقية التي مازالت إلى اليوم تعاني ويلات الاستعمار، وأهمها السيادة المنقوصة أو الشكلية. .2 الخدمات الجامعية سنعيد بعض الفقرات من الحلقة الماضية لفك إشكال التقطع، والمواصلة في نفس الفكرة. تمهيد: لأسباب غير معلنة، لم تعالج وثيقة إصلاح التعليم العالي الصادرة في جانفي ,2004 ملف الخدمات الجامعية والطرق الناجعة للتكفل بالطالب المقيم في مجال الإيواء والإطعام والنقل والمنحة والنشاطات العلمية والثقافية والرياضية، وفي المقابل إيجاد الحلول الآنية والمستقبلية التي من شأنها القضاء التدريجي والفعال على ما أفرزته سنوات من تراكمات التسيير العشوائي والكارثي أحيانا، فالقطاع وما يوفره من خدمات أساسية وضرورية لإنجاح العملية التربوية كان وسيبقى مكسبا هاما، يتجلى فيه مبدأ العدالة الاجتماعية العزيز على الشعب الجزائري وثورته المظفرة، وكذلك مظهر من مظاهر توزيع الدخل الوطني، يجب عقلنته وترشيده بما يخدم المجتمع، من خلال تزويده بكفاءات علمية توكل إليها نهضة البلاد، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، لكن ما نلاحظه من اختلالات في هذا القطاع الحيوي يسيء إلى العناية الكبيرة التي توليها إياه، السلطات العمومية، وينقص من الإمكانات المالية المعتبرة المرصودة للعمليات المذكورة أعلاه. وعليه فإن قطاع الخدمات الجامعية رغم أهميته الاستراتيجية المجسدة لأهم مبادئ التعليم العالي في الجزائر، لم يستطع تحقيق شروط النجاعة والجدوى المنتظرة منه، كعامل نمو واستقرار نفسي وفيزيولجي للطالب الجامعي المستفيد بصفة قانونية، من خدمات الإقامة الجامعية، هذا الحيز الحيوي الذي يفترض أن يكون المحيط الملائم والأمثل لتهيئة الطالب نفسيا وجسديا، لتلقي العلم أولا وبلورته قيما ومثلا حضارية وثقافية في الوسط الجامعي ثانيا وفي المجتمع أخيرا، فما هي أسباب هذا الفشل، الذي يميز تسيير معظم الاقامات الجامعية؟ 2 - 1 مشروع الخدمات الجامعية لعله من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى فشل قطاع الخدمات الجامعية في تجسيد المهام المسندة إليه، غياب النظرة الاستراتيجية المحددة للمعالم والأهداف والوسائل التي يجب أن يتم من خلالها تنفيذ مخطط الخدمات الجامعية كرافد هام وحيوي في إنجاح العملية التعليمية من جهة، والتفكير المنهجي في ترشيد النفقات العمومية وإكسابها طابع العدالة والنجاعة، ذلك أن الاعتمادات المرصودة لهذا القطاع، اعتمادات هامة إن لم نقل ضخمة، خاصة تلك الموجهة إلى الاستهلاك، كالإطعام مثلا. وبالرغم من ذلك فإن الإطعام لأهميته متعددة الجوانب، لا يحظى دائما برضا الطلبة، فتراه يشكل بؤرة التوترات التي ما فتئت وبصفة تكاد تكون دورية، تشل نشاط الجامعة وتكلف الخزينة العمومية مبالغ طائلة بفعل أعمال الشغب والتخريب التي يلجأ إليها الطلبة الغاضبون، دون أن نستبعد في ذلك بعض الأفعال المبالغ فيها، والتي تغذيها نوازع ونوايا مبيتة لأطراف داخلية أو خارجية، تتلذذ في ''سادية'' سافرة، عندما ترى جهودا مضنية ومبالغ مجزية، تلتهمها نار الحقد والتعصب المدمر، فهل نلوم الطالب إن انحرف برسالته النبيلة، وجرفته تيارات العنف والعنف المضاد، إذ لكل فعل رد فعل مساو أو متجاوز له، فالطالب الجامعي وهو يمر بمرحلة سنية حرجة وحساسة، بحاجة إلى عناية ورعاية تأخذان بعين الاعتبار إشباع حاجاته الفيزيولوجية والسيكولوجية، كالاستفادة من غذاء صحي ومتوازن، ورعاية طبية ونفسية، تقيه آفة الانحراف وتعاطي مختلف السموم من مخدرات ومنشطات، التي بات خطرها محدقا بالطالب الجامعي قبل غيره من شرائح المجتمع الأخرى، وهذا مصداقا للحكمة الخالدة الجسم السليم في العقل السليم. 2 .2 التسيير الإداري من المفارقات العجيبة التي يعرفها قطاع الخدمات الجامعية، إسناد تسيير مؤسسات بحجم وخطورة وحساسية الإقامة الجامعية، إلى أشخاص عجزوا عن تسيير شؤونهم الخاصة، فبعض هؤلاء المسيرين، لا علاقة لهم بصيغة اسم الفاعل، من الفعل ''سير'' فهم ألصق بصيغة اسم المفعول، ذلك أن كل ما يملكونه من شهادات علمية وكفاءات مهنية، كثير من القفز على الحقائق واستغفال البعض وابتزاز البعض الآخر، أو ترك الحبل على الغارب لبعض النافذين، خوفا وطمعا. وبناء على هذه الحقيقة المرة، فإن نهاية نفق الإقامات الجامعية ما زالت بعيدة، ولن تتحقق رؤيتها، إلا عندما تغير بعض الأطراف المعنية، من نظرتها إلى هذا القطاع، الذي تراه العجلة الخامسة للعربة، كما تراه أطراف أخرى خارجية خاصة، أكثر براغماتية وواقعية ميكيافيلية مجالا للربح السريع، مقابل تقديم خدمات رديئة وناقصة كما ونوعا. تظافرت عوامل الجهل والتواطؤ وسوء التسيير، على قبولها باعتبار أن ليس في الإمكان أبدع مما كان. لكن، هذا لا يحجب عنا ما يبذله بعض مسيري ومسيرات الإقامات الجامعية رغم صعوبة المهمة، من جهود معتبرة أثمرت أساليب تسيير راقية، بثت في نفوس الطلبة الأمن والطمأنينة، وأشاعت في أوساط العمال روح البذل والعطاء والتوقان دائما، إلى تقديم الأحسن والأفضل، السر في ذلك كله أن هؤلاء المسيرين المسلحين بالعلم والتجربة والمعاملة الحسنة، أعطوا لكل ذي حق حقه، في ظل النزاهة والشفافية. فحرصوا على التطبيق الصارم والعادل لمبدإ كل ''حق'' يقابله ''واجب''، يستوي في ذلك العامل والطالب المقيم والطالب الخارجي، وكذلك وهو هام أيضا، الأطراف المتعامل معها من مؤسسات وهيئات إدارية عمومية وخاصة وتنظيمات طلابية إلى غير ذلك، مما يشكل محيطا حيويا للإقامة الجامعية، باعتبارها مدينة متعددة المرافق، تضم فئة سكانية ذات خصوصيات ومطالب معينة بيداغوجية وإدارية واجتماعية. هذا، ولا يعنينا من الناحية المنهجية، الخوض التقني والمفصل أو المشخص، في بعض القضايا ذات العلاقة الوطيدة بتسيير المال العام، سواء في إطار إبرام الصفقات وعقود التموين والتجهيز، وما يكتنف هذه العمليات من خرق للقوانين وتواطؤ في تنفيذها، أو من حيث السكوت على العيوب التي تشوب عمليات التموين والإنجاز أو التلاعب (في) أسعار العروض، بغرض تغليب كفة طرف معين على طرف آخر. إلى غير ذلك، من التجاوزات في التوظيف والترقية أو إسناد المناصب، لا على أساس الكفاءة والجدارة. بل، لعوامل ومعطيات تتحكم فيها اعتبارات ذاتية أو أملتها جهات أخرى. كما يجب ألا يغيب عن أذهاننا كذلك، تفشي روح الإهمال واللامبالاة والتبذير وتدني مستوى النظافة والأمن واستعمال ممتلكات الإقامة لأغراض مشبوهة، يدركها كل ذي بصر وبصيرة.. إن هذه الممارسات المنحرفة إداريا وماليا واجتماعيا، قد وجدت لها مع الأسف، غطاء وحماية من بعض المنتفعين والمرتزقة الذين باعوا ضمائرهم وذممهم للشيطان. فبددوا المال العام، متحدين بأساليبهم الخاصة، كل عمليات المراقبة، المحلية منها، والمركزية، جاعلين من الإقامة الجامعية سجلا تجاريا يضمن لهم الربح الوفير على حساب كمية ونوعية الخدمات المقدمة وآثارها المالية على الخزينة العمومية. ومن ثم، مصادر تحصيلها في المجتمع. إذاً، وحيث أن الأمر بهذا الحجم من الخطورة، فإن كشفه والتنديد به أمر ضروري، لكنه غير كاف. لذا، فالجهات المعنية، مطالبة وبكل الجدية والصرامة، بالتدخل لوضع حد لهذا النزيف المادي والمعنوي الذي يهدد كيان الإقامة الجامعية وكل مكوناتها ومقوماتها البشرية والمادية؛ ويفتح باب احتجاجات الطلبة على مصراعية ويعطل مسيرة الجامعة. ذلك أن استمرار الوضع وبهذه الوتيرة المتسارعة، سوف لن يجدي معه أي إصلاح أو تغيير يمس من قريب أو من بعيد، طرق وميكانيزمات سير هذه المؤسسة ? المكسب. وفي هذا المجال، ما فتئت بعض الجهات المحظوظة والتي تعيش بحبوحة اجتماعية واقتصادية معروفة تاريخيا، تنادي متباكية على ما يستهلكه قطاع الخدمات الجامعية من أموال طائلة حسب زعمها. وبالتالي، ضرورة خوصصته والانتهاء مرة واحدة، من مشاكله. إن الخوصصة كواقع اقتصادي عالمي تفرضه الميكانيزمات المالية المتحكمة في اقتصاد السوق، مرحلة آتية لا مفر منها. أما تطبيقها بصورة آلية وشاملة، في قطاع لا يملك البدائل الكافية واللازمة لاستمراره في إنتاج الكفاءات البشرية الضرورية لإقلاع اجتماعي واقتصادي وسياسي، فهو في نظرنا، أمر سابق لأوانه وسيفرز نتائج عكسية، تطيل ازمة البلاد وتقنن للمضاربة وتبديد المال العام بصور جديدة ومبررات بديلة ومشروعة. لذلك، فإن إعادة النظر في سياسة الخدمات الجامعية، على مبدأ ''الربح والخسارة'' أو ''النجاعة الاقتصادية''، لا تجد في المدى المتوسط، مبررات فرضها في قطاع ما زال ''مستهلكا'' وغير منتج للثروة بمفهومها الاقتصادي. إلا أن التدرج المنطقي الهادف إلى إضفاء طابع النوعية على الخدمات المقدمة، مقارنة بالإعتمادات المرصودة، يدعو إلى إيجاد آليات للتسيير الحر جزئيا، تضمن من ورائه السلطات العمومية كوسيط أو متعامل عمومي، تقديم خدمات جيدة مقابل مساهمة معقولة من الطالب. على أن توظف الأموال المستثمرة في هذا المجال، لتدعيم القدرة المالية للطالب والإقامة الجامعية في نفس الوقت. وقبل الشروع في هذه العملية الهادفة إلى تحرير تسيير بعض مناشط الخدمات الجامعية، يجب ضبطها وتحصينها بجملة من القوانين والإجراءات العملية، تمنع أي تلاعب أو تحريف، من شأنهما إفراغ الخدمات الجامعية من مضمونها الاجتماعي والتربوي. .../... يتبع