تمهيد: لست من المتشائمين أو من أولئك الحاقدين الموتورين الذين ما فتئوا يقدحون في كل مشروع تشتم منه رائحة الوطنية والأصالة، فراحوا بكل وسائلهم ينعتون المنظومة التربوية الوطنية وفي كل مستوياتها، بأقبح الصفات وأخطر الاتهامات، فكان أهم هذه الادعاءات على فجاجتها وتعميمها، أن هذه المنظومة ''المريضة'' و''المنكوبة'' قد أفرزت ثقافة العنف واللاتسامح، وأنها أنتجت جيلا من المعوقين لغويا ودينيا، يدعو إلى الأصولية والإرهاب، إلى غير ذلك من الترهات والأراجيف التي لا تستند إلى أي منطق، ناهيك عن الموضوعية المستخلصة من البحوث العلمية الرصينة. بل هي في حقيقة الأمر، سموم اعتادت على بثها شرذمة متمرسة في قلب الحقائق، متمكنة ومتجذرة في بعض دواليب المؤسسات والهيئات النافذة، إنهم ببساطة دعاة الاندماج القدامى والجدد، الذين كانوا سببا في تأجيل استعادة الشعب الجزائري، سيادته وحريته وإطالة محنته، ولولا تصميم هذا الشعب على تجاوزهم ليلة الفاتح من نوفمبر 1954 وإقدامه على بذل التضحيات الجسام وصبره ومعاناته التي مازالت آثارها ماثلة إلى اليوم، لاستمر ليل الجزائر، ولاستمر الاستعمار جاثما على رقابنا متحكما في أنفاسنا وأرزاقنا، حالنا في ذلك حال كثير من الشعوب الإفريقية التي مازالت إلى اليوم تعاني ويلات الاستعمار، وأهمها السيادة المنقوصة أو الشكلية. 5 .1 تنظيم الامتحانات وهي تجري في فترات محددة وتشمل عدة أشكال وطرق يتم من خلالها مراقبة وتصحيح مسار الطالب العلمي والدراسي. لكن ما يلاحظ في هذا المجال، أن الامتحانات على كثافتها وعدم احترامها لمواعيد إجرائها لظروف قاهرة أحيانا، تفتقر إلى عاملي الجدية والنجاعة. فبعض الأساتذة مازال يطالب ببضاعته. وبالتالي، فإن الطالب مجبر على الحفظ لا التمثل، المبني على الفهم والاستيعاب العقلي والمنطقي. وحيث أن بعض الأساتذة يلجأون إلى أساليب التلقين والحشو، فإنهم بذلك، يعطلون في الطالب، ملكة الفهم عن طريق التفكير المنطقي من تحليل وتركيب ومقارنة وقياس واستقراء. وعليه، فإن عملية التعليم والتكوين الحديثة، مراعاة منها لشخصية المتعلم، تقترح عدة طرق تربوية للتأكد من استيعاب الطالب للدروس التي تلقاها كعنصر مشارك في العملية التعليمية، لا كعنصر حيادي أو مجرد متلقي سلبي. ومن بين هذه الطرق، الطريقة الانجلو- أمريكية. التي تعتمد طرح كثير من الخيارات الممكنة، لسؤال معين. ثم هناك الأسئلة غير المباشرة، أو تلك، التي على الطالب استكمال الفراغات المتروكة عمدا.. إضافة إلى طريقة المشروعات والأبحاث الميدانية.. إلى غير ذلك من الطرق التي تثير الذاكرة وتشحذها، لا تلك التي تقهرها وتحنطها. وفي هذا المجال، نذكر بعض النظريات التربوية الأساسية المعتمدة في العملية التعليمية. كنظرية ''المنعكس الشرطي'' السلوكية ونظرية ''الجيشطالت Gestalt-théorie'''' في الإدراك، والنظرية '' الترابطية '' المؤسسة على فرضية العلاقة بين ''المثير'' و''الاستجابة'' (Stimulus/Réponses)..إلى غير ذلك من النظريات والمفاهيم التربوية، التي تطبق كل واحدة منها في مرحلة أو اختصاص أو حالة معينة، من التعلم. مراعية في ذلك، عدة عوامل، موضوعية وذاتية لدى المتعلم. قد يرى بعض الأساتذة أن تطبيق مثل هذه الطرق والأساليب، تحصيل حاصل بالنظر إلى طبيعة التعليم في المرحلة الجامعية المعتمد أساسا، على البحث، ويعتقدون أن الطالب الجامعي وقد بلغ سنا متقدمة ومستوى تعليميا عاليا، غير معني بما أشرنا إليه. ناسين أو متناسين أن البحث العلمي في حد ذاته، يعتمد أساسا، على التجارب والفرضيات العلمية والعملية المحققة في ميداني التربية وعلم النفس وما توصلت إليه تطبيقاتهما الميدانية والمخبرية. كما يتحجج بعضهم بانعدام الوسائل والأدوات التربوية، أو العدد الكبير من الطلبة... إلى غير ذلك من التبريرات التي تبدو لأول وهلة منطقية، لكنها في الحقيقة، تعكس نظرة قاصرة وغير جدية للعملية التعليمية. فالأستاذ الذي لم يقدم لطلبته علما نافعا طوال السنة، ثم يلجأ خلال الامتحانات، إلى طرح أسئلة تعجيزية وبطريقة شفوية أحيانا، أستاذ مخل بواجبات ومقتضيات مهنته، وقد يرى أنه فوق النقد، وأن حديثنا هذا، لا يعنيه إطلاقا!!. 6 .1 ظروف الأستاذ الاجتماعية - المهنية من عوامل إنجاح العملية التعليمية، ضمان الحد الضروري، لحياة الأستاذ في جوانبها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والترفيهية. نعم، كل هذه الجوانب!!. فالأستاذ الذي يضع محفظته بعد الدوام الرسمي بالجامعة، وفي حركة تذمر وتبرم، ليباشر مرغما، نشاطا آخر لا يمت بأية صلة لمهنته الأساسية، أو ذلك الأستاذ الذي يقضي جل وقته متنقلا بين الفنادق والبيوت المستأجرة، أو ذلك الأستاذ الذي ولظروف معقدة ومتشابكة، يخلع مئزر الأستاذية ويلبس حلة لا اسم لها ولا لون، إذ يلجأ إلى ممارسة تجارة المقايضة مع طلابه!!. إن هذا الصنف من الأساتذة وبدل أن نقول تجنيا أو تسرعا، إنه مثل سيئ للمعلم والمربي، نستدرك ونقول إنه يعكس ''حالات شاذة ومأساوية'' تستوجب التوقف عندها مليا. باعتبارها افرازات أوضاع نفسية واجتماعية واقتصادية، يعيشها هؤلاء المربين، كمواطنين عاديين وأساتذة مربين. وتعدد الأوضاع هذه، زاد الإفرازات سالفة الذكر، حدة وتعقيدا. فإذا كان حال بعض الأساتذة على الصورة القاتمة تلك، فكيف يكون حال الطالب منزوع السلاح إلا من الإرادة وكثير من الصبر!!. إن هذا الاختلال الحاصل في حياة الأستاذ الاجتماعية-المهنية بمفهومها الواسع، رغم تحسنها في المدة الأخيرة نسبيا، كان وسيكون له تأثير سيئ على نوعية مردوده الفكري والعلمي. بل، إن هذه الآثار ستنتقل بسرعة إلى طلابه وستنعكس نتائجها في نظرة هؤلاء إلى أستاذهم، فيخلصون إلى مدى ''عبثية '' وجودهم بالجامعة، وقد فشلت كل هذه الشهادات في ضمان العيش الكريم لأستاذهم، '' قدوتهم ونموذجهم في الحياة''. ولا نختم هذه النقطة الهامة، دون الإشارة إلى الأطراف الأخرى المعنية بالعملية التعليمية من إطارات إدارية وعمال مهنيين وتقنيين. فالوضع مشترك وعام. ومما يحز في النفس ويشعر هؤلاء ''بالحقرة'' وسيادة مبدأ الكيل بمكيالين، التباين الشاسع بين منصبين متساويين في التصنيف والمهام، مختلفين في الأجر والعلاوات. بدعوى أن أحدهما تابع للوظيف العمومي والآخر للقطاع الاقتصادي. برغم أن الدستور وكل القوانين الأساسية المشرعة للعمل، تنص وتؤكد على مبدأ المساواة في الأجر، في حال تساوي الجهد والوقت (A travail égal salaire égal). دون التمييز بين قطاع وآخر، طالما أن هذه القطاعات، خاضعة لنفس النصوص التشريعية الساري مفعولها على كل مؤسسات الجمهورية الجزائرية. وفي هذا المجال، نتساءل عن دور المؤسسة النقابية وتفريعاتها، محليا ومركزيا. فهل استطاعت هذه المؤسسات إسماع الجهات المعنية، صوت الأستاذ والعامل والموظف؟! أم أنها مازالت وفي غياب التعددية النقابية الحرة والحقيقية، تحاكي ذلك المثل الشعبي القائل:''اللاعب احميدة والرشام احميدة''. ذلك، أن ما نلاحظه في العمل النقابي الراهن، صراعا دون مضمون، وجهدا لا طائل من ورائه. طالما أنه محصور في دائرة ضيقة من المطالب التي لا ترقى من حيث الجدية في المعالجة والتنفيذ، إلى طموحات وانشغالات العمال والأساتذة والمؤسسة التي ينتسبون إليها. إن واقع العمل النقابي الراهن، يحتاج إلى إرادة سياسية شجاعة، تقبل وتلتزم باحترام الآليات الديمقراطية المنظمة لهذا النشاط، المعدل والموجه والمصحح لمسارات الأمة والمجتمع بأقل الخسائر وأيسر السبل وأنجعها. نقول هذا، إيمانا منا بأن الأمم المتقدمة، وما بلغته من تحضر ورقي، كان نتيجة تحرير كل القدرات والإمكانات والكفاءات البشرية. تحكمها وتسيرها ضوابط وقوانين محفزة لا رادعة، موجهة لا قامعة. وما نلاحظه في هذا المجال، أن النقابي الحقيقي، وكلما حاول طرحا نوعيا، قصد الارتقاء بمهمته شكلا ومضمونا، إلا وصدته حواجز وموانع وممنوعات، تتخذ تسميات واجتهادات وتبريرات متعددة، تستند إلى قانون ومنطق البقاء وحفظ المصالح والولاء للأشخاص لا للمؤسسات والهيئات الدستورية. وهذا، يؤدي بكل نقابي أو مسير جاد و نزيه، إلى الإحجام ثم التقهقر، فالانسحاب. فإذا كانت مطالب وتحذيرات النائب المشرع، للسلطات العمومية من مغبة المبالغة في فرض أعباء إضافية على المواطن المرهق بمتناقضات حياته اليومية، لم تلق إلا إصرارا على تجاوزها، فما يستطيع فعله نقابيون أو مسيرون لا يملكون الأدوات والضمانات الكافية لكسب قوت عيالهم ؟!!. إن استمرار الذهنية الأبوية وضروب المساعدة المشروطة (L'assistanat) في كل مناحي حياة المواطن، ستؤخر عملية نضجه ووعيه خاصة، والمجتمع عامة. ألم يحن الوقت لفك قيود المواطن الافتراضية منها والمفروضة ؟!. فمجتمع بهذه الصفة، مجتمع مشلول الفكر، مشلول الإرادة. وإذا شل وتعطل الفكر، هذه الملكة التي هي أول وآخر دليل يفرق بين الإنسان وبقية المخلوقات المعروفة على وجه الأرض، فإنه لامناص للسلطات المعنية، من توقع وتقبل الأسوأ. لأن الرسالة لم تبلغ أو أنها بلغت لكنها لم تفهم، بسبب استعمالها ترميزا غير معروف ويحتاج هو نفسه، إلى وسائط تفك طلاسمه. هذا، ودون الوقوع في محاذير التقديرات والتصورات الجاهزة أو كما يحلو لبعضهم أن يطلق عليها تجردا أو تحرجا، لغة الخشب وأساليب الوعظ والإرشاد المتفائل منها أو المتشائم، فإن المجتمع الجزائري، وتثمينا لإرهاصات وبوادر الحكم الراشد التي تلوح في الأفق القريب، مقبل على عصر من الرقي والازدهار، بفضل إمكانياته البشرية والمادية، التي لم تجتمع في أي بلد آخر. لكن، شريطة أن تتخلص كل مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسة النقابية واحدة منها، من سياسة التدجين والموالاة المبنية على اعتبارات مصلحية آنية وضيقة. .../... يتبع