الجزائر بني مزغنة لؤلؤة البحر المتوسط، وأبرزالمدن العتيدة في العالم، إذ تحوي معالم أثرية جد هامة يعود تاريخ تشييدها إلى عصور ضاربة في عمق التاريخ الإنساني، ما أكسبها قيمة عالمية معتبرة. وصفها المهندس المعماري لوكوربوزي بأنها نموذج للعمران العالمي. ومن تلك المواقع القيمة ''قصر ''23 الذي بقي الشاهد الوحيد في تاريخ قصبة الجزائر المطلة على البحر، بعدما قامت فرنسا بهدم الجزء الأكبر من هذا الحي الأثري العتيق تاركة المجال للمنشآت العمرانية ذات الطابع الفرنسي. موقع القصر يتوسط قصر الرياس البحر أو حصن 23 الواقع في شارع محمد عمارة رشيد بلديتين بلدية باب الوادي وبلدية ساحة الشهداء. ويعد أحد أبرز المعالم الأثرية الشامخة التي تزخر بها مدينة الجزائر المحروسة، بني على يد الدولة العثمانية كبوابة لصد هجومات الأعداء المتكالبين على الجزائر ووضع حد للمد الإسباني المحدق بالشمال الإفريقي وقت ذاك. وحصن 23 في الأصل عبارة عن مجمع معماري فخم يتكون من أربعة قصور تحمل أرقام مختلفة 17-18-23 أما قصر 19 فقد تم هدمه أثناء مرحلة الترميم الذي باشرتها الجزائر سنة 1987 نظرا لحالته المتدهورة، وألحق الجزء المتبقي بقصر ،17 وأضيفت مركبات إلى هذا الحصن وكذا مباني سكنية تسمى ب ''بيوت الصيادين'' أو بيوت ''رياس البحر''، وهي عبارة عن ''دويرات'' - تصغير لكلمة دار - وعددها ،6 إضافة إلى ممرات مغطاة بقبب طولية متقاطعة وتسمى أيضا ب ''لسباط'' ومصلى يحتوي على محراب يؤمه الرياس وقت الصلاة، وهو يتربع على مساحة قدرها 3469 متر مربع. أصل تسمية حصن 23 حسب الأستاذ جمال سعداوي مسؤول عن دائرة الثقافة بقصر رياس البحر والأستاذة ''نابت''، رئيسة قسم الاتصال والتبادل بذات الحصن، في تصريح لهما ل ''الحوار''، أصل هذه التسمية مبني على ثلاث فرضيات، تعود الأولى الى الترقيم التسلسلي الذي وضعته فرنسا الاستعمارية لعدد القصور الموجودة في الجزائر القديمة والبالغة 25 حصنا للتصدي لأي هجوم أجنبي على الإقليم الجزائري، ومنه أخذ هذا الحصن رقم ،23 أما الفرضية الثانية فتفيد بأن هذه التسمية تعود إلى ترقيم شوارع وأحياء وعمارات الجزائر العاصمة التي اعتمدتها فرنسا بمجرد احتلالها أرض الجزائر، ومنه أخذ هذا المكان حي ،23 فيما تعطي الفرضية الثالثة تفسيرا بأن هذه التسمية أي ''حصن ''23 تعني الرتبة العسكرية التي تقلدها الإدارة الفرنسية لضباطها، وعليه فقد سمي هذا الحصن نسبة إلى قائد شغل هذا المكان. شرع في بناء حصن ،23 حسب ما أكدته الأستاذة نابت استنادا إلى مصادر تاريخية، في سنة 1576 بأمر من السلطان رمضان باشا الذي حكم الجزائر العاصمة في الفترة الممتدة بين 1576-1577 وانتهت الأشغال به سنة 1798 في عهد القائد مامي أرنؤوط. وأشارت مصادر أخرى إلى أن أول صرح بني في هذا المكان يسمى ب '' برج الزوبيا'' أو البطارية، وهو ما يمثل الجزء الأمامي لحصن 23 والمفتوح مباشرة على الوجهة البحرية. وكانت توضع من فوقه قطع مدفعية موجهة أساسا لحماية الجزائر من الخطر الخارجي الداهم من البحر. ويعتبر ''برج الزوبيا'' جزءا من أسوار مدينة الجزائر القديمة كما أطلق عليه الأتراك اسم ''الطبانات'' بسبب وجود قطع من المدفعية، وهو باقٍ كشاهد تاريخي ليروي لنا وللأجيال اللاحقة حكايته مع الهجمات التي تصدى لها لحماية مدينة الجزائر من الخطر الأوروبي. قصر 18 ..أشكال هندسية متنوعة يكتسي قصر 18 أو قصر مامي شكلا مكعبا وطابعا معماريا ينعدم فيه الحس الجمالي للمبنى من الناحية الخارجية، شأنه في ذلك شأن قصور القصبة العتيقة، في حين تبرز قيمته الجمالية والفنية من الداخل حيث يحتوي زخارف متنوعة الأشكال. يتكون قصر 18 من مستويين أو طابقين ومن سقيفتين ومنزه أو ''السطح''. حيث نلج إلى قصر 18 من خلال باب ضخم نحو سقيفة صغرى تصلنا بالسقيفة الكبرى ذات شكل مستطيل زينت جدرانها ببلاطات خزفية، وهي عبارة عن فضاء يربط الداخل بالخرج، وهو قليل الإنارة مزود ببئر للإضاءة. تؤدي السقيفة إلى عدة أماكن أخرى من القصر، المخزن وبيت الصابون.. ويظهر من خلال الأبهة أن قصر 18 ينتمي إلى مصف اجتماعي معين. وأنت تدخل السقيفة تجد على يسارك ما يسمى ب''سطارة'' أو ''الدكنات'' مبلطة ببلاطات خزفية من العهد الفرنسي، وهي مكان يرتفع على سطح الأرض حوالي 50 سم مساحته حوالي 40 سم مغطاة بمادة الرخام ومزودة بأعمدة وعددها ،5 وهي مزدوجة صنعت من صخر الكلس، بالإضافة إلى أرضية مبلطة بالخزف، وعتبة باب السقيفة المصنوعة من مادة الرخام. وفي بهو السقيفة يوجد باب يتجه نحوالإسطبل، حيث تربط فيه الخيول، وباب في مؤخرة السقيفة وآخر كمدخل نحو ''دويرة'' ويفصل بين الباب الأولى والثاني الدرج الذي يؤدي إلى طوابق القصر. بيوت وغرف حصن 23 تتوزع غرف القصر على طابقين، الولوج نحو الطابق الأول يتم من خلال سلم يحتوي على 13 درجا أو''السلالم'' المصنوعة من مادة الرخام الأسود، تفتح على يسار جدار السلم نافذة مسيجة تطل على السقيفة الكبرى، كما تقابلك نافذة صغيرة الحجم عند أعلى هذا السلم. وفي الواجهة يقابلك الباب الرئيسي الذي يؤدي مباشرة نحو الطابق الأول أو''الصحن'' ويسمى ب ''السحين'' او''وسط الدار''، وهو مربع الشكل، عبارة عن فضاء حيوي كان يستغل عادة في تنظيم الحفلات في مختلف المناسبات، ويزود الغرف المحيطة به بالإضاءة والهواء، تحيط بجهاته الأربعة أروقة مكونة من 12 عمودا ذا شكل لولبي مصنوع من مادة الرخام الأبيض، جيء به من تونس وإيطاليا، وعادة ما ينتهي القوس بتاج كوزنثي وبها شكل هلال رمز الحضارة الإسلامية. أما جدران السحين فهي متواصلة ومرتبة، بها محور مركزي تقابلي ونوافذ من كل جانب. يشكل السحين عمود القصر حيث يمنحك نظرة شاملة على القصر، وهو أيضا نقطة معبر إلى الدرج المؤدي إلى السطح، كما يوجد أسفل هذا الصحن جب يستقبل مياه الأمطار الآتية من السطح عبر قنوات مصنوعة من مادة الفخار أو النحاس، حيث يتكون الطابق الأول من أربع غرف تسبقهم عتبة قليلة الارتفاع بالنسبة لصحن القصر وتقع هذه الغرف خلف كل رواق، جدرانها وأرضيتها مزينة ببلاطات خزفية صغيرة الحجم مزهوة بزخرفة نباتية أو أشكال هندسية مميزة وذات ألوان زاهية زادت المكان جمالا. ديوان السلطان.. الشاهد الوحيد على السلطة العثمانية نطل على الطابق الثاني أو المستوى الثاني عبر 13 درجة، 7 أصلية والباقي أعيد بناؤها. يوجد على يسار جدار السلم ما يسمى ب ''البرطوز'' تخزن فيه أشياء معينة، كما يوجد عند مدخل هذا الطابق ''بيت العولة'' بها 3 نوافذ تمر خلالها أشعة الشمس، كما يحتوي أيضا على ''ديوان السلطان''، ما يوحي أن هذا المكان كانت تناقش فيه أمور الحكم وتراعى فيه شؤون الرعية. وهذه القاعة مازالت تحتفظ بخصائصها القديمة، فسقفها عبارة عن لوحة مزينة بأبهى الألوان الطبيعة وهي أصلية، وأرضيتها أيضا عبارة عن فسيفساء آية في الجمال تستنطق هذا المكان من صمته الرهيب لتقول أنا الشاهد على المراحل التاريخية التي مر بها قصر .23 توجد بها 10 نوافذ صغيرة خمس منها للإضاءة والباقي للتهوية و4 نوافذ كبيرة مسيجة، اثنتان منها مفتوحتان على رواق، أما النوافذ الأخرى فمفتوحة على خارج القصر، إضافة إلى رفوف جميلة الألوان والزخارف مزينة بأشكال هندسية رائعة توضع في زواياه الأربع قناديل للإنارة، ويحتفظ باب هذا الديوان بإطاره الأصلي المميز. والملاحظ على هذه الغرف أنه لم تدخل عليها أية رتوشات أثناء الترميم، كما يوجد بهذا الديوان باب يؤدي إلى الطابق العلوي أو الثاني وآخر يؤدي إلى المنزه أو''السطح''، وهو مكان تجتمع فيه النسوة بعد فترة الزوال حيث يتخذنه مكانا لتبادل أطراف الحديث. المطبخ أو الخيامة على طريقة الأتراك يتكون المطبخ التركي من صفحات من الشست له خمس فوهات دائرية الشكل تسمح بمرور ألسنة النار التي تنبعث أسفل هذا الفرن، تعلو هذا المطبخ مدخنة مغمورة في جدار مزدوج يمتد إلى غاية السطح، كما توجد غرفة بها بئران يزودان القصر بالمياه الصالحة للشرب. أما قاعة الأكل، وهي قاعة كبيرة مربعة الشكل سقفها مزين بمختلف أنواع الفواكه الحمضية تلك التي تشتهر بها الجزائر من الخوخ والرومان، والتفاح، والإجاص، فيوجد بها خمس خزانات، وخمس نوافذ مسيجة 4 منها مفتوحة نحو البحر والأخرى نحو شارع عمارة رشيد. أهمية حصن 23 تذكر مصادر تاريخية أنه ونظرا للموقع الاستراتيجي الذي يحتله حصن ،23 فقد اتخذته فرنسا كقاعدة عسكرية كسابق عهده، حيث استعمل كمدفعية بين سنة 1900 و،1915 ثم خصص لأحد القادة الفرنسيين المكلفين بالهندسة المدنية ثم اتخذ كمدرسة داخلية للبنات سنة .1846 بعد ذلك استعمل مقرا للقنصلية الأمريكية سنة 1850 ثم مقر إقامة الدوق أومال، كما خصص المبنى كمكتبة للبلدية. وفي سنة 1962 تحول إلى إقامة سكنية لمجموعة من العائلات العسكرية، بعدها سكنته عائلات جزائرية بعد الاستقلال حيث ألحقت به خرابا كليا، بعدها استرجعته وزارة الثقافة التي أسندت عملية ترميمه إلى إلى شركة إيطالية بالتعاون مع بعض الشركات الوطنية سنة 1985 وانتهت الأشغال به أواخر ،1993 حيث فتح أبوابه للجمهور نوفمبر .1994 صنف هذا المعلم تاريخيا سنة ،1909 وفي 23 نوفمبر 1993 أطلق عليه اسم ''مركز الفنون والثقافة في قصر رؤساء البحر''.