الجزائر والمغرب الكبير بلد الأولياء والصالحين''.. ''ينبت الصالحون فيها كما تنبت الأرض الكلأ''.. هكذا تشيع الأوصاف البديعة عن أهل المغرب عموما لانتشار عبق الصوفية النفيس بينهم؛ إذ تعد منهجا تربويا يفضي إلى حق العبودية لله تعالى، بما تعنيه من تحرر من كل قيود وأغلال الدنيا. عندما سئل أحد العارفين: لماذا خلق الله الخلق ؟ أجاب على الفور خلقهم لأمور ثلاثة : - لما كانت قدرته أعظم من آن تدرك كان لابد لها من مشاهدين. - ولما كانت نعمه أكثر من أن تحصى كان لابد من مستقبلين. - ولما كانت رحمته أوسع من أن تضيق كان لابد لها من آثمين. من هذا الفهم يدرك العاقل ضرورة استمداد البقاء من الحي الذي لا يموت، والنعم من الرزاق ذي القوة المتين، والرحمة من الرحمن الرحيم الذي شملت عنايته الخلائق أجمعين. وقد كان عهدي بالدراسة الأولى التي تلقيناها في مراتع الصبا ومرابع الخيام أبياتا كنا نرددها لازمة كلازمة مفدي زكريا في إلياذته الشهيرة، وكأنها كانت ترسم الطريق القويم والمنهج السليم الذي يحفظ التوازن الفكري والوجداني وسط أنواء التيارات الوافدة ذات اليمين أوذات الشمال، والأفكار النشاز الشرقية منها والغربية، هذه الأبيات للفقيه عبد الواحد بن عاشر في متنه الشهير التي يقول فيها: وبعد فالعون من الله المجيد*** في نظم أبيات للأمي تفيد في عقد الأشعري وفقه مالك *** وفي طريقة الجنيد السالك المشهد الروحي أو السلوكي يتميز حتى لا ندخل في دائرة الالتباسات التي حامت حول بعض المصطلحات في التاريخ- بتنوع الطرق والزوايا التي تمتد على طول التراب الجزائري من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه. هذه الزوايا التي كانت سلك نظام روحي يجمع القاصي والداني والعاصي والمطيع بأدنى إشارة من الشيوخ الذين كانوا حراصا على تعليم وتربية الدهماء، وحراسا على الفضيلة أن تعبث بها شياطين الإنس والجن. ومن أجدى وأعظم سبل الوصول إلى درجة عالية من مثل هذا الإيمان هو سلوك طريق حددها الرسول الأعظم بمجموعة من التعاليم والضوابط، ونذر كثير من أهل التربية والسلوك أنفسهم لخدمتها وتعليق الناس بأهدابها وتسليكهم فيها للتخلص من الحمأة والطين، والرقي عبر مدارج السالكين إلى درجات أهل ''إياك نعبد وإياك نستعين''. لقد ارتبط دور الزوايا في الجزائر بالحياة في أغلب مناحيها توجيها وتفعيلا. ثم إنه من خلال مسح لتاريخ التصوف في هذا البلد الكريم ستصل حتما إلى استنتاج هو الذي أكده الأستاذ علال الفاسي في إحدى محاضراته التي ألقاها في السبعينيات من هذ القرن حين ذكر، ''أن التصوف بالمغرب هو تصوف أخلاق مقابل تصوف الحقائق والإشراق الذي كان سائدا في تاريخ البلاد المشرقية، وأن النزعات الأخلاقية التي دخلت إلى المشرق مع الشاذلية وفروعها كان منبعها المغرب. إن هذا الاستنتاج يتطلب مزيدا من الفهم والتعديل. ذلك أنه لا ينبغي أن يفهم منه أن هناك تصوفا باطنيا وآخر ظاهريا، ولا أن هناك تصوفا اهتم بإنتاج حكمة في تعبير شعري أو نثري دون إيلاء أي اهتمام يذكر للسلوك، ولا ينبغي أن يفهم منه كذلك أن هذا التصوف المغربي الموسوم بالنزعة الأخلاقية كان عاريا من الذوق الروحي المعتبر موردا لما يسمى ''بالحقائق'' أو حقائق التوحيد''. ثم إن المأمول هو غاية نود أن نراها مجسدة على أرض الواقع، وهي إدماج التراث الصوفي في العصر على أساس أنه طريق حي للسلوك، وتوسيع دائرة هذا الإدماج ليصل إلى أكبر قطاع يمكن الوصول إليه، بالخصوص أننا قد ذكرنا إيلاء التصوف في هذا الطرف من المغرب عناية خاصة بالأخلاق تزكية وتقويما، وطلب معاليها، وسؤال الله الهداية لأحسنها واجتناب قبيحها. ثم إن المأمول من وراء الحرية السياسية التي يعمل على بنائها المجتمع الإنساني اليوم بمؤسساتها والتزاماتها توفير مناخ جديد للمعتقدات بما فيها فكرة التصوف، لتحميها وتخرجها من زوايا التهميش وسطوة الإقصاء، وبذلك ستشارك مع مؤسسات الدولة وفعاليات المجتمع المدني في أعمال خير يحميها ويراقبها القانون. إن فعل التصوف في التاريخ عموما يمكن أن تستعرض وجوهه من خلال أدوار مشهودة بشكل تزامني قامت بها التكوينات الصوفية في الجزائر عبر القرون في سياق التفاعل الاجتماعي الذي يعد الأساس الممكن لأي تحقيب. وإذا تجاوزنا الجانب الروحي، أي دور التأهيل للاكتمال والحرية إزاء العالم، وهو الدور الأساس الذي هو الأصل في المنهاج الصوفي، والتفتنا إلى الأدوار المحسوسة ذات الآثار التاريخية وجدنا تجلياتها تشمل جوانب كثيرة منها، وقد لفت نظري تعداد لهذه الجوانب قام به أحد الباحثين ننقله كما هو، ولأنه وصف هذا الدور الذي كان ينسحب على جل الزوايا والطرق التي كانت مترامية الأطراف في بلاد مزغنة''الجزائر'': أولا- الدور الديني وتجلى على الخصوص في ما يلي: 1- نشر الإسلام كعقيدة في شعوب وقبائل لم يصل إليها الفاتحون، 2- بث تعاليم الإسلام في أقوام ظل إسلامهم لا يتعدى مظهر الهوية والانتماء ؛ 4- تنظيم الجهاد ضد الغزو الأجنبي وتأطيره في أوقات كانت فيها الأمة في أخطار محققة تهددها من الخارج، 5- تنظيم السفر إلى الحج عبر شبكة أمنية ولوجيستيكية، وربط المغرب بالمشرق في ظروف مخيفة جعلت حتى الفقهاء يفتون بعدم لزوم القيام بفريضة الحج. ثانيا- الدور التعليمي والعلمي والثقافي ويتجلى في ما يلي: 1- نشر حفظ القرآن الكريم، وقد كان عدد من أوائل شيوخ التصوف من المعلمين في الكتاتيب 2- بناء المدارس العلمية وتدبيرها، ولاسيما في أوساط القبائل 3- إنشاء الخزائن وتعميرها بالكتب العلمية، وتشهد بهذا الإسهام مجموعات التراث المخطوط في المكتبات إلى يومنا هذا 4- توفير إمكانيات التأليف واحتضان المصنفين. 5- نشر الثقافة العامة الشفوية عند غير القارئين، عن طريق مجالس الذكر والمذاكرة. ثالثا- الدور الاجتماعي ويتجلى على الخصوص في ما يلي: 1- توفير الإيواء في زوايا التصوف لعدد من أبناء السبيل. 2- إطعام المحتاجين الطعام، ولا سيما في أوقات نقص الغذاء وحدوث المجاعات. 3- تأمين الطرق بالهيبة والرهبة التي عرف بها أصحاب الزوايا، وتدعيم ذلك بنشر أخبار الكرامات التي تدور حول نزول الشر بالمعتدين عامة وقطاع الطرق خاصة. 4- التدخل بالحكمة والرغبة والرهبة لحماية جماعات المحكومين من عسف العمال الظالمين والحكام المستبدين. 5- ضمان التوازن وتدبيره بين الطوائف في مجتمع انقسامي على شفا الحرب والمقاتلة لو اختل هذا التوازن. 6- الإشراف على معاهدات التساكن بين جماعات متجاورة تنطوي وضعياتها على احتمال قيام مبادرات عدوانية. 7- كسر الحواجز القبلية والإثنية ونصب جسور تواصل روحي بين الجماعات ولاسيما بين العرب والبربر، أو تليينها على الأقل. 8- تأطير الاستقرار في المجالات الترابية الجديدة التي تغزوها الجماعات بعد فراغ ناتج عن موتان أو غيره. 9- تأطير الاندماج الاجتماعي للمهمشين والغرباء في أوساط علاقاتها قائمة على الأنساب والعصبيات. 11- تكوين دوائر واسعة من المتعاطفين تسري فيها ثقافة السلوك تتداول فيها حكمها. رابعا: الدور الاقتصادي ويتجلى على الخصوص في ما يلي: 1- إحياء مجالات من الأرض الموات وعمارة الأرض. 2- غرس الأشجار على نطاق واسع لمواجهة حاجات القاصدين. 3- استباط المياه من العيون والآبار وبناء المجاري المشتقة من الأنهار. 4- ضمان الأوقاف والمعاهدات المتعلقة باستغلال المراعي ولاسيما في قمم الجبال من طرف قبائل متعددة. صلة محمد ابن أبي القاسم بالأمير عبد القادر: من خلال الأحداث المتعاقبة يمكن أن نثبت أن الأستاذ كان متعلق الروح بجهاد الأمير عبد القادر . فالروايات الشفوية تجمع على أن اللقاء بين الرجلين قد تم في جبل البيضاء غير بعيد من البيرين ، عندما كان الأمير يعبئ جيشه لمواجهة الاستعمار ، خلال الفترة الأولى من معاهدة ''التافنه'' . وكان الأستاذ قد عاد من زاوية سيدي أحمد بن أبي داود ، وبدأ يعلم أبناء الهامل والنواحي المتاخمة له ، ولما عرف منه الأمير عبد القادر هذا الأمر دعاه إلى مواصلة عمله في نشر العلم ، وحبب إليه فتح زاوية يؤمها طلاب العلم ، لتبديد ظلام الجهل الذي عانى منه الأمير في جهاده الأمرين . وهناك أسلحة بعث بها الأمير إلى الأستاذ ، أتى النهب الاستعماري على بعض منها ، وأخذ قسم آخر بعد الاستقلال بدعوى حفظه في متحف الجهاد ، والبقية الباقية ما زالت بحوزة الزاوية . كما أن هناك مراسلات بينهما ، أيام جهاده ، وأخرى بعد استقراره بالشام. وقد كان الأستاذ يكن لعائلة الأمير الكثير من الإعزاز ، فحدب على من تبقى من هذه العائلة بالجزائر ، وفي مقدمتهم الأمير الهاشمي رحمه الله