كلما استيقظ..... يتمنى لو يجدها جالسة أمامه... يسمع صوتها العذب. يدعوه إلى شرب القهوة الساخنة.. تدفيء بلمساتها قلبه البارد، يتمنى كل يوم لوتعرف توقيت حزنه.. تأتي.. تمسح رأسه.. تحمم نظراته بحب لا متناهي، لكنه سرعان ما يستفيق من أمنية لن تتحقق، وحلم لن يتجسد... فوراء هذه الأمنيات لا يوجد سوى هذه الجدران المجردة من كل المشاعر... يزلزل أذنية صوت'' هذه'' التي تنهر في وجهه كل صباح قائلة: ''إنهض يا كسول! لن تشرب الحليب عقابا على تأخرك'' منذ حلت محلها..نثرت عطرها قطرة قطرة، في أرجاء البيت تفننت في رقصاتها كبرت صورتها توسعت شيئا فشيئا سيطرتها... رسمت خارطة المنزل الجديدة بيديها... يحفر صوت''هذه'' في جسده حفرا فلا يعرف أن للعالم شكلا! يخرج من المنزل باكرا... مكتئبا.. مكسورا، مطويا على نفسه، تنبعث من تحت ثيابه رائحة الأسى، يبقى واقفا على حافة الطرقات كمن يخترع البؤس أحلامه ينتظر من يشتري منه لعنته يتأمل هذه الأقدام التي تأتي وتروح، يتنهد طويلا كل لحظة، يلعن هذه الحياة التي أدخلته رحلة معاناة قاسية. ينظر إلي السماء عاليا يسأل صفاءها: هل أخطأت في المجيء إلي هذا الزمن؟ هو صبي بهي الطلعة تطل من عينيه الصغيرتين نظرة يصاحبها بريق غير عادي ممزوج بالحزن بدل الفرحة، والعبوس بدل الابتسامة، واليأس بدل الامل، إنه الحرمان في أشد درجاته ..الشوق لشيء مفقود لا يعرفه إلا صاحبه. كان معه أطفال آخرون لبسوا ''برنوس'' الشقاء.. يبيعون نفس الاكياس الصغيرة المملوءة بالفول السوداني.. يسترق النظر إليهم واحدا واحدا... يمارس قلبه طقوس الغيرة والحسد، بالنسبة إليه كل واحد منهم كان له من ينتظر عودته بابتسامة وعناق كبيرين.. عاملته ''هذه'' كمعاملة لا تليق ببراءته.. تعرت طفولته منذ كان في الرابعة من عمره تم توقيفه عن الدراسة في سن العاشرة ..كلف بهذه المهنة.. المحنة.. التي حملته المسؤولية كالكبار وأنسته لعب الصغار. كان المصروف اليومي الذي يقتنيه منها الدافع الوحيد الذي يجعل والده يحدثه، لذلك اعتقد دوما أنه مجرد ''لقيط''.. فلا فائدة من أب يوسعه ضربا وينتظر منه المقابل! ولا فائدة من هذه التي لم ير منها سوى القساوة ..الشتم والضرب. مع مرور الوقت أصبح مشتت الفكر.. شارد الذهن جامدا لا يتحرك.. تزوره نوبات عصبية تحوله إلى شخص مثله كمثل الوحش الجائع. تتمزق أوردة صوابه يمسك بيديه رأسه، يتألم ألما شديدا، يرتعش جسده يقفز من ذاته عبر حركات غريبة يهيج كالحيوان ينط بين الجدران يصرخ صراخا مخيفا، يرعب من حوله تنتفض ''هذه'' ..تحضن ولديها خوفا منه... تنوح ..تهدد زوجها: خذني إلي بيت أهلي .. لن أعيش مع مجنون؟ يكبله والده... يحبسه في غرفة كمن اقترف ذنبا، يصرخ صراخا مدويا، يهشم صراخه... يغرسه في جوفه.. يخيط فمه بشريط لاصق. يدفنه حيا.. يتخبط من شدة الألم .. يحدث فوضى يعود إليه، يفقد صوابه يركله ركلات قاسية متتالية على بطنه على ظهره صفعة على خده ..يزحف الرعب إلى جسده ..يشعر ببرد يقشعر بدنه ..يئن ككلب مصاب طول الوقت، تتحطم صورة أبيه بين عينيه يتذكر خيالها تترقرق دموعه المالحة.. ماذا كنت ستفعلين لو كنت هنا يا حبيبتي ومؤنسة وجعي؟ هي حالة اعتبرها الاب عابرة ستنتهي معه... فلم يحرك ساكنا لإجراء فحص طبي كونها علامة من علامات دلال الاطفال! عندما يصبح مختلفا يفك قيده يلومه على هذا الدلال الذي تجاوز حده.. يحذره يشتمه يعنفه يرضى زوجته ..يمسح دموعها المصطنعة .. أرسليه إلى العمل.. خمسة وعشرون سنة تمر على هذا الغصن الصغير.. تكبر معه حالته النفسية الصعبة ..رغم ذلك لم يحرك الوالد ساكنا لاجراء فحص طبي، يعالجه من هذا العذاب فذلك هدر للمال ومضيعة للوقت. يبقى والده يعنفه، يضربه، يجرح مشاعره، يخدش أعماقه يعاتبه على عدم تأمين مصروف البيت... فلم يكن يوما طفلا ولم يعد رجلا! تكبر مع الفتى نوباته العصبية يعتقله والده كل ليلة داخل محل الخياطة الذي كان يملكه، يعطيه القليل من الطعام ودلوا أزرقا لقضاء حاجته..هو حل جعله يضيع خطوات سبيله، يشطب كل أحلامه وطموحاته يواصل تدوين أحزانه، يبسطها على صفحات ذاكرته في زمن ..سرق منه أمسيات سعادته ،تبددت لذته للطعام لبس عباءة الاصنام ..أصبح شابا ..لن يعرف فن الابحار عاش على هامش عمر قاب قوسين! يدخل كل ليلة في فراغ عميق. تتدحرج الافكار الغريبة في دروب عقله، يهزه الموت كلما نظر في مرايا كفيه، لم يعد يرى أمامه سوى قسوة أبيه.. هذا الاب الذي جعله يلتحف الجوع والوحدة وغربة رصعت جدرانها ببلاط الاهل وصمت البشر.. إلى متى سأبقى أسير أحزاني؟ تمضي الليالي ولا يمضي الغضب، لمعت ذكرياته كخنجر حاد، قرر الفتى إلغاء إشراقة الاختيار، خطط بلا رجعة، الانتقام... من الذي تسبب في رسم أوجاعه وآلامه، حمل في قلبه برودة الشتاء وحرارة الصيف.. كان والده الربيع الذي سيفقد ألوانه على يدي هذه الزهرة التي استفاقت مستحضرة كل معاناتها.. أصبح لا يدري الشروق من الغروب، والجنوب من الشمال، أمسك بمفك البراغي هجم على والده هجمة المساجين العطشى للحرية وطعنه ست طعنات بمجرد أن فتح باب المحل، وضع النهاية لليالي القاسية والدموع الابدية. سقط الاب على الارض غرق جسده في بركة من الدماء ركض الجاني بكل قوته، تقاطعت الاشكال والالوان أمامه ، بدا كل ما حوله في الدوران اللامتناهي ..لم يبتعد كثيرا سقط مغميا عليه كانت نهاية حريته . وضعوا في معصمية كماشات ..قيدوه ..خيم الهدوء عليه اعترف بجرم كان يجب أن يكون... اعتبر الوالد الحدث درسا أيقضه من غفلة كان يمارسها مع إبنه البكر، صفح عنه عادا إلى المحل التفت حوله شعر أنه مجرد بضاعة مستعادة لم يمح صنيع والده انكساراته ماتت رغبته في العيش فكر في اللحاق بمصدر أمنه... بعد ثلاثة أشهر من عودته إلي حياة سجنه عنفه والده، أسمعه كل ما يحط من قيمته ،ضاق صدره لم يستطع الصمت، دفع إلى الصراخ فوضى التفكير ، احتدم النقاش بينهما بادله نظرات القسوة قرر أن يكون رجلا لاول مرة في حياته. اكفهر وجهه برزت عيناه.. أرسلت عنفا كراهية أثار جروح لم تضمد تناول مقصا كان على الطاولة لم يتوقف لحظة عن تطريز جسد أبيه ..استعاد ديونه انتقم ببرودة ..أحس بالراحة وهو يشاهده يسقط أرضا ينزف دما يلفظ أنفاسه الاخيرة . بوزريعة ماي 2009