قبل ساعة أو أكثر من وقت الإفطار تكون طاولات مطعم عمّي بشير بحي "بلكور" العتيق (محمّد بلوزداد الآن)، قد امتلأت عن آخرها بشباب ورجال وكهول يبدون من سِحنتهم ولباسهم ولهجتهم بأنّهم ليسوا من أهل العاصمة. حمزة هدنه ومِن على تلك الطاولات يتبادل هؤلاء أحاديث ذات شجون، وتعلوا أصواتهم شيئا فشيئا حتّى لا يكاد يسمع بعضهم بعضا، أحاديث عن رمضان والأهل والعمل وعن المصير أيضا. لقد جاء هؤلاء من شرق البلاد وغربها وجنوبها بحثا عن لقمة العيش، هؤلاء النّاس يُصطلح على تسميتهم في العاصمة ب "الزّوافرة"، وهي كلمة تعني الأعمال المُضنية والعيش الصّعب. ولئن كان "الزوافرة" لا يظهرون بشكل واضح خلال العام كله، فإنّ رمضان يلقي عليهم بأضوائه فينكشفون، ولمن أراد أن يعرفهم فليكمُن لهم عند كل مطعم قبيل الإفطار، ليسمع حكاياتهم وليرى تقاسيم وجوههم فيعرفهم ويعرف قصّتهم. في السّادسة والنّصف تقريبا، يشرع نادل مطعم عمّي بشير في توزيع "الشّربة" على زبائنه الذين يتردّدون عليه كل يوم، إنّها "شربة" من دون لحم، هكذا يريدها الزّوافرة، بل هكذا يفرضها عليهم جيْبهم، بينما تودّ معدتهم أن تكون "شربة" باللّحم بل "لحم بالشّربة"! ولكن ما حيلتهم إن كان مدخولهم لا يسمح لهم بأن يأكلوا اللحم سوى مرّة أومرّتين في الشّهر. نكاد نجزم بأنّ أغلبيّة "الزّوافرة" الذين فضّلنا تناول وجبة الفطور بينهم لننقل لكم وجها آخر من وجوه المجتمع، نكاد نجزم بأنهم تناولوا شربتهم من دون لحم وبأنّهم لم يزيدوا طبقا وراء طبق الشربة ذاك، ومن زاد فإنّه يطلب من النّادل زيادة قليلة في استحياء كبير قائلا "شوِيّ شربة..الله يبارك فيك". لسنا نقول إنّ الزّوافرة يبخلون على أنفسهم بزيادة طبق آخر بخس الثّمن كالشّربة التي لا تتجاوز الخمسين دينار أوالستين دينارا في أسوأ الأحوال، ولكنّها مسؤوليّاتهم العائليّة التي تجعلهم يحسبون للسّنتيم الذي يكسبونه ألف ألف حساب، فعائلاتهم وأبناؤهم ينتظرون منهم حوّالات ببعض المال نهاية كلّ شهر، أويرقبون عودتهم إليهم بشيء من المال أوالحاجيات، وتلكم هي اللحظة التي يخشاها هؤلاء ويشعرون بأنّها ساعة الحقيقة التي يقفون فيها أمام مسؤولياهم وأهليهم، وعليه فهم لا يريدون أن يخِيبوا أويُخيِّبوا. إنّ نظراتهم إلى بعضهم وهم يأكلون ويتبادلون أطراف الحديث تُخبرك بأنّ القوم يُخفون أكثر ممّا يُبدون.. إنّ مَعِداتهم وأجسادهم موجودة هنا في العاصمة في مطعم عمّي بشير، ولكنّ قلوبهم وأرواحهم هناك بين أبنائهم وعائلاتهم في الجزائر العميقة.. لقد هاجر هؤلاء من أجل اللقمة والكسب الحلال، وهم اليوم يتحمّلون تبِعات هجرتهم بِلذّة وبتضحية وبحبّ كبير لمن تركوهم خلفهم، ويتمنّون أن يكون الذين مِن خلفهم بخير، وأن يصوموا رمضان بخير، والموعد بهم سيكون في العيد، ومن أجل هذا اليوم هم يجاهدون الآن في ورشات البناء والنجارة والحدادة وفي المقاهي والمطاعم وفي الحراسة. ولنعد إلى طاولة الإفطار، فبعد الشّربة يُصبح كأس من المشروبات الغازيّة أمرا ضرورياّ لا يستنكِف "الزّوافرة" عنه، فهذا الكأس هوالذي ينعشهم، إنه هو الذي يُشعرهم بأنّهم قد شبعوا حتّى وإن كان ذلك غير صحيح -والأكيد أنّه غير صحيح- لأنّ صحن شربة واحد لا يُمكنه أن يُرضي المعدة، ولكنّها مسؤوليّاتهم تجاه عائلاتهم التي تجعلهم يكذِبون على أنفسهم وعلى معداتهم.. إنّهم يُمارسون القهر والكبت على معداتهم حتّى تشبع معدات أبنائهم، إنّها التّضحية والإيثار والحبّ في مستوياتهم الرّفيعة جدّا. بعد الفطور يتبادل الجميع التّهنئة بالصّحة والعافية والسّلامة، قائلين لبعضهم "صحّ فطوركم يا جماعة" ويردّ آخرون "الله يسلّمكم"، ثم يخرجون جماعات وفرادى، وجهتم الأولى المقهى، وهناك تبدأ جولة ثانية من الحكايات مع القهوة والشّاي والسّجائر، ومن ثمّ يهرع كلّ إلى مُراده، فمنهم من يقصد المسجد ومنهم من يلبث في المقهى ومنهم من يخرج للتّجوال، وبعد هذا وذاك لن تراهم إلاّ في اليوم الموالي قبل أذان الإفطار مع القصّة نفسها.معاناة تقهرها الرّجولة