شهدت أول أمس قاعة حاج عمر بالمسرح الوطني عرض مسرحية ''بين أنا وأنا'' لمخرجها ومؤلفها اللبناني''جون داود''، حيث تحولت الخشبة إلى مأتم من البوح النابض بوعي المرأة المقيدة بسلاسل المجتمع والذات. تعالت أصوات فرقة مختبر الدراماتورجيا للتمثيل والنصوص من لبنان لتعلن بعرضها المسرحي المتميز والمثير للتفكير في ذات حواء الحاضرة الغائبة في مجتمعها. وقد شارك في تحريك أحداث المسرحية كل من كريستيل نصار وكريستين بوزيد، سيلين حالبيان إلى جانب جنى نمور وستيفاني كيال. هي رحلة إلى أعماق العذاب الأنثوي في مجتمعنا الشرقي والإنساني، حيث ما تزال المرأة مجرد أداة للجنس غير المقدس ودمية تتقاذفها الأيادي العفنة المكبلة بوهم التراث الذكوري الأحمق ودونية المرأة والنظرة النمطية تجاه المرأة الكائن المشبع بالهم والألم ودعوة للخروج من سجن الرجل الشرقي المكدس بالعقد. بلغة عربية فصحى تناولت لوحات العمل المسرحي الغائر في الصوفية ومناجاة الوعي الدفين قضية العنف ضد المرأة في المجتمع العربي والطابوهات وتتطلع إلى فك عقدة الاضطهاد التي يعاني منها جسدها وروحها معاً، طالما هي مباحة بلا حدود خلف هذا السياج الذي أحكموه حولها. رغم أن العرض اتسم بالابتعاد عن البذخ الفرجوي واستخدام الديكورات ما حقق معادلة اقتصاد العرض التي تبناها المخرج وهو خيار له دلالاته المعرفية والإستيتيكية، نجح جون داوود في إنجازه الفني الغائر في تلافيف قضية المرأة وفي تصميم رؤية سينوغرافية غاية في الرمزية والقوة، أحالت الفضاء السينوغرافي المؤثث بالأبيض والأسود على فراغ يعج بالحياة والحركة يتناغم وبصمت مع حركة الممثلات اللائي لبسن النص وحولن الجسد إلى مادة ساطعة بالحقيقة والتوق إلى الحرية والمساواة وأفرغن كل ما اختزنته المرأة في ذاكرتها المتعبة من صمت وخنوع أزلي واستسلام قابع في جرة الأزمنة تارة صمت، وأخرى حركة، سرعة وركض، سقوط،، تقوقع، وحدة وذلك كله على خلفية قبر مفتوح بستار شفاف يتراءى فيه جسد المرأة بقناع وكفن وبعض تراب لتفوم بشق شرنقة القبر البلاستيكية وتخرج معلنة نهاية الموت وبداية الانتعتاق من سجن التاريخ. تدفقت شلالات الحكي بشاعرية من أفواه البطلتين في إحالة إلى حكايا شهرزاد في عتبات أبواب شهريار هذا الرجل الشرقي الذي يختزل كل الرجال في عملية تكثيف، نكتشف عوالم المرأة وصراخها المبحوح في أزقة التاريخ ووقوفها ضد اغتصابها عقلا وجسدا فثمة بنية في المشاهد تجمع الصمت والركض بسرعة في شتى الاتجاهات وكأنها تائهة في صحراء الواقع الذي لا يرحم روحها المتعبة، تفاعل الجمهور بقوة مع العرض على مدار 55 دقيقة لأنه عمل موجه للعقل والوعي.