لأن التاريخ أمانة يجب أن يدون بأمان وحيادية، ارتأينا بدورنا في هذه المناسبة أن نقوم جاهدين حسب ما يمليه الضمير بجمع كل ما بوسعنا الوصول إليه، أينما وحيثما وجد لتدوينه حول هذا التراث الذي هووفي كل الأحوال تراث ثقافي نابع من أعماق المجتمع، لذلك لا يمكن التخلي أوغض البصر عنه سواء كان سلبيا أوايجابيا وبالنهاية التاريخ هومن يحكم، وأكيد سيحكم من زاوية الحياد وبكل إنصاف. وما أريد التطرق إليه وتدوينه يخص شأن تلك الحركة الموسيقية النابعة من أعماق أعماق المجتمع الجزائري، وتحديدا سكان المنطقة الغربية من ربوع الجزائر الشاسعة انطلاقا من مدينة سيدي بلعباس مربط الفرس، إن صح القول والاعتقاد ومنطلق مسيرة أغنية ''الراي''، وان كان لكل رأيه في ذلك وفيها فها نحن نضع بين أيدي القارئ الكريم والمهتمين وأصحاب الفضول سيرة ومسيرة أغنية ''الراي'' انطلاقا من شعابها . تعود جذور نشأة أغنية ''الرأي''، إلى مناطق الجهة الغربية من الجزائر وهي لهجة بدوية قريبة من العربية يتداولها أهل المنطقة، خرجت أغنية ''الراي'' مع بداية ظهورها في قالب الشعر الملحون على يد شيوخ الملحون إبان فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر، إذ ركزت جل اهتمامها آنذاك على وصف وسرد معاناة ومآسي المجتمع، جراء القمع المسلط عليه من طرف الاستعمار وان أخذت في البداية طابع المديح الديني، لكن ومن بعد الاستقلال أخذت طابع أخر وبنفس النبرة أواللكنة، فمن الطابع الديني إلى الثوري الاجتماعي فالعاطفي، حيث تستقر الآن وبشتى الألوان والأنواع، أما عن مولدها الحقيقي فتعد مدينة سيدي بلعباس مسقط رأسها، إذ تعرف بأنها المكان الذي نمت به اغنية ''الرأي'' وهي الشاهد على مراحل تطوره إلى أن انتشرت أغنية''الراي'' في غالب مدن المنطقة الغربية والوسطى والى الشمال الإفريقي على حد سواء، لاسيما المغرب وتونس وان كانت المغرب أكثر بكثير من تونس بحكم تقارب اللهجة بين الجهة الغربية من الجزائر والشرقية من المغرب بحكم تلامس حدود الدولتين. لقد كانت البداية الحقيقية لأغنية ''الرأي'' على يد الشيخة ''الرميتي'' والشيخ ''بلمو'' الذين قفزوا بأغنية ''الرأي'' وأعطوها روحا جديدة ونفسا اكبر وأطول وادخلوا عليها آلات موسيقية عصرية، منها ''الساكسو'' و''السانتيتيزار'' ما جعلها تنفصل نهائيا عن الملحون، وتسلك دروب العصرنة، وظلت إلى غاية السبعينات وبداية الثمانينات توصف بالفن الخارج عن القانون المحظور، ما جعلها تبقى بعيدة عن اهتمام وسائل الإعلام ومنها الراديووالتلفزيون، إلا أن شركات التسجيل وجدت في ذلك ضالتها وجنت منها فوائد كبيرة نظرا لكثرة الاهتمام بها خاصة من طرف الشباب وهوما ساهم في انتشارها بشكل كبير داخل الوطن وخارجه، وخلال فترة الثمانينات لا ننسى تأثير فرقة ''راينا راي'' التي ظهرت بمدينة سيدي بلعباس وأسهمت بشكل كبير في لفت انتباه جماهير المغرب وتونس إلى هذا نوع من الفن، الذي ضربت أمواجه بقوة في أعماق مجتمعات هذه الدول المجاورة ما يوحي بامتداد وتزاوج عادات وتقاليد شعب المغرب العربي وتعتبر فرقة ''راينا راي'' النوع الأخر لهذا الفن الذي حولته من الأداء الفردي إلى الجماعي لكن حافظت طابعه وان أضافت له بعض من الآلات الموسيقية مثل ''القرقابو'' الذي أعطى نكهة أجمل . بعد ذلك يعد الشاب ميمون أول من غنى ''الراي'' بالطريقة العصرية ولم يولى بأي اهتمام الذي بدأ مسيرته في السبعينات ومن أشهر أغانيه '' تشطن خاطري'' مطلع الثمانينات التي اشتهر بها ولمع نجمه. مع بداية التسعينات كان للشاب خالد الأثر الكبير بل وسفير اغنية ''الراي'' حين هجر بها وحملها إلى ما وراء البحار، شأنه في ذلك شأن الشاب نصرووشاب مامي، وبعدهم آخرون كانوا من بين معتنقي ورواد ثورة ''الراي'' خارج الديار، تبعدها بعد ذلك تلك الثورة التي أحدثها الشاب حسني داخل الوطن ولم يهجر بها أويصدرها إلا عبر أمواج الأثير والأشرطة فذاع صيتها بأغاني الشاب حسني الرومانسية. ونذكر من بين من لمعت واعتلت أسمائهم سماء أغنية ''الراي'' بطابعها الجديد الشاب خالد، مامي، حسني، نصرو، بلال، أنور الذي تميل أغانيه إلى الأغنية المغربية ولدواعي مادية ونجومية تخلى الكثير من مغني '' القصبة والقلال'' عن ذلك النوع الذي ظل حكرا على سكان الريف بعيدا كل البعد ولم يدخل المدينة إلا ناذرا لإحياء بعض ''الأعراس'' ومن الذين تخلوا عنه نذكر الشيخة''الجنية'' والشيخ الجيلالي ''التيارتي'' والكثير الكثير منهم وكان لهم وقعا كبيرا في ساحة ''الراي'' . وتعد سنة ألفين من بين السنوات التي اختلت فيها موازين اغنية ''الراي'' بهبوب رياح التغيير والتقليد وكذا التفقيس الملفت للانتباه لمغني ''الراي'' واعتمدت هذه الفئة الجديدة من الشباب التقليد والمزج بالموسيقى الغربية وكل ما له علاقة بالموسيقى مهما كان نوعها واصلها فما كان على الشيخ ''قانة المغناوي'' إلى الخروج بأغنية ''غموه غموه '' وان كان ذلك نهاية التسعينات يوم اشتد التنافس والخلاف بين مغني ''الراي'' ذروته وعن سبب إطلاق تسمية ''شاب'' على كل من يغني ''الراي'' فقد اكتسبها الشاب خالد يوم دخل مسابقة للمغنين الشباب، وكان ذلك في التلفزيون الجزائري وفاز يومها الشاب مامي الذي يعتبر من بين الذين دخلوا التلفزيون الجزائري من الباب الواسع وعن أصل كلمة ''راي'' أي ''الرأي'' الأشخاص ولكل رأيه . رغم كل تلك الموجة القوية والأصوات المختلفة التي اجتاحت ساحة ''الراي'' والتسابق نحوالنجومية ولوعلى حساب الطابع الأصلي لنوع ''الراي'' إلا أن هناك من ظل محتفظا ومتمسكا بالطابع الأصلي لأغنية 'الراي'' وفضل التوقف والتخلي عنها بدل طمسها لأجل النجومية أوالمنفعة المادية وكان من بين هؤلاء رائد من روادها وأب من أبائها الروحيين الشيخ ''النعام'' الذي لم ينحرف بها أويحرفها وحافظ على مبادئه فيها ولا يعد ''النعام'' مغنيا لهذا النوع ''الراي'' فقط بل شاعر يصنف من بين كبار شعراء الملحون وله عدة روائع من الشعر أداها في شكل أغاني هادئة تعالج الكثير من القضايا الاجتماعية وقد جاهر بذلك من خلال بعض أغانيه ولا يزال الرجل يسلك نفس الدرب في هدوء وله جمهور كبير ومحبين ذواقين من كل الأجيال . وان ظل التضارب والجدال قائم، بين المهتمين والمتتبعين لهذا النوع من الأغاني ''الراي'' ولم يحسم بعد، حول جذوره الحقيقية، فهوفي الحقيقة من رحم مدينة سيدي بلعباس، إلا أن تبني مدينة وهران له بالواقع بعد أن احتوت جل مغنيه نظرا لتوفرها على بعض الفضاءات والمناسبات، التي كان يجد فيها مغني ''الراي'' العباسي ضالتهم، وهناك تأثر بهم شباب تلك المدينة''وهران'' ووصلته فكرة وانفتحت الشهية على هذا النوع من الغناء، فبدأت المحاولات بنبرات وهرانية تختلف قليلا عن العباسية، إلا أنها في النهاية عرفت النجاح لكن والى حد الآن لا تزال موسيقى ''الراي'' العباسية مميزة، ولكل مغني من مغني المدينة نوع من الموسيقى تميزه وتوحي بانتمائها لمدينة سيدي بلعباس، على غرار ''الزرقي'' الأب الروحي الآخر الذي غادرها عاجلا إلى مثواه الأخير، والشاب دريسي وياسين و''قمبوز'' العباسي وتعد فرقة ''راينا راي'' بمثابة المدرسة التي أبدعت وكما أسلفنا الذكر فقد كانت من أولى الفرق، التي تؤدي هذه الأغنية بشكل جماعي ومميز إذ كان نجمها الجيلالي العمارنة، أول من أشهرها واشتهر على رأسها وكانت تسمى في البداية ب''العمارنة'' نسبة إلى منطقة العمارنة المحاذية لواد المكرة، وعرف الجيلالي العمارنة بهذا الاسم لان هذه الفرقة ظهرت وبرزت بوجوده فيها، ولكونه هومن كان يقوم بأداء جل الأغاني التي كانت تؤديها الفرقة ومن أشهر ما أداه على رأس الفرقة أغنية ''الفن والرأي خارج من بلعباس، إلا انه والظروف تم اعتزال وانسحاب البعض من أفرادها وأسسوا فيما بعد فرق أخرى بنفس الطابع والأداء، فبقت فرقة ''راينا راي'' ببعض من العناصر وتأسست فرقة أخرى أطلق عليها اسم ''راينا هاك'' بمعنى هكذا نحن. ولوهران نوع من الأغاني خاص مميز يميزها، يأخذ الطابع الفلكلوري من التراث الشعبي، يعرف ب ''الأغنية الوهرانية '' ومن روادها المغني والملحن بلاوي الهواري، صاحب الفضل الكبير في تطوير هذا النوع من أغاني المدينة، وهناك أيضا المغني الكبير احمد وهبي، وما عرف عن أغانيه من معاصرة وأصالة عاصر بها الحقبة الاستعمارية، ويعد من بين أوائل من ادخل العود العربي على هذا النوع من الأغاني الوهرانية، لتأثره بمطربين عرب أمثال فريد الأطرش، محمد عبد الوهاب، وبظهور موجة ''الراي'' التي عزلها احمد وهبي وبلاوي الهواري ولم يعترفوا بها كفن واعتبرت دخيلة، لكن استطاع بعض من مغني ''الراي''، السطوعلى العديد من أغاني احمد وهبي، وبلاوي الهواري وأدائها في قالب أغنية'' الراي''، ما أوحى لبعض الجماهير أن هؤلاء هم أصحابها الحقيقيون، في المقابل اعتقد وعن طريق الخطأ البعض الأخر من الناس أن ''الراي'' ولد بمدينة وهران، بحكم أن تلك الكلمات وهرانية التي سطا عليها جموع مغني ''الراي ''وباتوا يتداولون على أدائها، إلى أن فقدت نكهتها الأصلية وهوما كان يخشاه أصحابها الحقيقيون، وهناك من يرى أن ذلك ساعد على شهرتها ونقلها إلى الخارج، مستشهدين بما قام به الشاب خالد حين أدى الكثير من أغاني احمد وهبي، على غرار أغنية ''وهران رحتي خسارة'' وأغنية بلاوي الهواري ''بي ضاق البور'' وكلمة البور تعني الأرض البور ومن المغنين الوهرانيين الشباب، الذين ظلوا متمسكين بأصول الأغنية الوهرانية بقليل من التعديل في الموسيقي، هم الشاب هواري بن شنات. أما بديار الغربة، فكان من البديهي أن يتأثر هذا النوع من الغناء والمتغيرات المحيطة به، داخل مجتمع لا يروقه إلا ما يخرج منه، فكان ذلك السبب الأول والثاني هوالبحث عن للربح والشهرة من طرف مغني ''الراي''، وكذا شركات الإنتاج، التي كانت تغريهم بمبالغ خيالية وتعدهم بالرقي بأغانيهم، بعد أن تدخل عليها وتمزجها بشتى أنواع الموسيقى الغربية، وبلغ ذلك حد تأديتها ثنائيا ممزوجة بأغاني أوربية لا معنى لها، يتفاعل معها الناس على وقع الموسيقى التي تحرك الأجساد، واخذ زمام المبادرة في ذلك الشاب مامي ابن منطقة سعيدة، الذي أدى احد أغانيه مع المغني الانجليزي ''ستينق'' ''sting'' بشكل ثنائي، وان عادت على الشاب مامي بشهرة كبيرة، إلا أنها أغضبت الشاب خالد الذي نجح لاحقا وإلى حد بعيد في أدائها بالطريقة الثنائية مع الكثير من المغنيين من العرب المشارقة والمغاربة والأوربيين، لكن ورغم كل ذلك وإذا ما عدنا إلى أغنية ''الراي''وسط كل تلك التحولات، فقد نجد أن هذا النوع من الفن، بقى على ارض المكرة محافظا على طابعه المميز مع بروز أسماء جديدة لشباب جدد، إلا أنها أبت أن تواصل المسيرة على نفس السيرة، وهي شهادة ميلاد حقيقية واثبات وحجة دامغة على أن هذا الفن هومن تراث مدينة سيدي بلعباس وحدها.